أصبحت المقولة المنسوبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اعتزل ما يؤذيك" أكثر استخداما، في موضعها وغير موضعها، وبعلم وجهل، وبحق وباطل!
وبغض النظر عمن يستحقون مجانبتهم، فقد أصبحت العلاقات –ولو في أسرة واحدة- تقاس كالمسافات بين السيارات؛ بدعوى أن مصير أي اقتراب هو الاصطدام لا محالة! وهكذا يقاس الإنسان؛ ذلك المخلوق الفريد، الذي كرّمه الله ونفخ فيه من روحه، بقطعة من حديد صنعها الإنسان!
فلو صحّ هذا القياس بين الإخوة وذوي الرحم الواحدة، لما رأينا هذه الأسر والعلاقات الناجحة عبر العصور، ولما رأينا إخوة تجوز المسافات والأجيال، حتى كانت الأسر الصغيرة تعيش مع بعضها في بيت كبير، كأنهم أسرة واحدة!
لكنّ سبب قطع الأرحام وتفسخ العلاقات، ليس ذلك القرب في ذاته، بل ما ذكرته الآية الكريمة: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم!" فالتولي عن اتباع الحق سبب الإفساد وتقطيع الأرحام!
وعندما قال الصحابي لأخيه: "يا ابن السوداء"، وأراد أن يعتذر، كان بمقدوره أن يكتفي بكلمات، لكنّه وضع خده على الأرض، حتى يطأها الصحابي الآخر! إنه يريد إثبات إذعانه المطلق للحق بدليل عملي ظاهر؛ فلا شيء أحق بالاتباع من الحق. وكان بمقدور النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن يلطف أجواء الشجار بكلمات الحثّ على الأخوة، لكنه صلى الله عليه وسلم لم تأخذه في الحق لومة لائم، وكان شديدا، حتى وجه اللوم للصحابي الجليل، قائلا: "أعيّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية!" هكذا دون مواربة! جاهلية! يقولها لأحد كبار الصحابة!
إنّ الاعتقاد السائد في مجتمعاتنا، بأن كل العلاقات مجرّد مراحل تستغرق وقتها، يجرّد الإنسان من إنسانيته دون أن يشعر! فكل خسارة لعلاقة طيبة، هي في حقيقتها خسارة هائلة؛ لا يعدم الشعور بها إلا من عدم الشعور. واعتراف الإنسان بالخسارة، أجدر من تبرير التولي عن اتباع الحق!