يعتبر الإنسان المحور الأساسي للرسالات والشرائع التي أنزلها اللهُ تعالى، باعتبار أن بني آدم هم المخلوق الذي يحمل الأمانة.. يقول تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [سُورَة "الأحزاب" – الآية 72].
وفي تفسير ابن كثير وتفاسير أخرى، عن ابن عباس (رَضِيَ اللهُ عنه)؛ أن الأمانة هي الطاعة والفرائض، وكلا الأمرَيْن يدور حول المحور الأساسي لخلق الكون والإنسان وسائر المخلوقات الأخرى، وهي عبادة الله تعالى، وإفراده بها.
ولقد جاء إشفاق السماوات والأرض من حمل الأمانة، تعظيمًا لدين اللهِ تعالى؛ ألا يقوموا بها، بينما قبلها آدم على ما فيها؛ إن أحسنَ جُزيَ بذلك، وإن أساء عُوقِب.
وبالتالي؛ فإن الدعوة تُعتبر أعظم ما يمكن للإنسان أن يقوم به في حياته، بعد أن يقوم بمهمته الأساسية التي خلقه اللهُ تعالى لأجلها، وهي عبادة الله عزَّ وجلَّ.. يقول تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سُورَة "الذَّاريات" – الآية 56].
وهنا ينبغي التأكيد على حقيقة بديهية مهمة، وهي أن الإنسان لن يستطيع القيام بمهمة ما؛ ما لم يؤهِّل نفسه للقيام بها ، أيًّا كانت طبيعة هذه المهمة، فالمهندس المعماري –على سبيل المثال– لا يستطيع وضع تصميم لمنزل ما، أو بناية ما، من دون أن يدرس العلوم ذات الصلة، مثل الرياضيات بأفرعها المختلفة، وميكانيكا التربة، وتأهيل نفسه في مجال الرسم، وغير ذلك مما يتطلبه ذلك العمل.
كما أنه –وهي بديهية أخرى– لا يمكن إصلاح شيء ما من دون أن تكون الأدوات المستخدمة في ذلك، سليمةً.
والدعوة –في جذر الأمر– هي مهمة أو مأمورية مثل أية مهمة أو مأمورية يقوم بها الإنسان في حياته، وتخضع –مثل أي شيء خلقه أو وضعه الله تعالى في ملكوته– للقوانين والنواميس التي شاءتها حكمة الله تعالى لكي تحكم وتوازن هذا الكون حتى يشاء اللهُ تبارك وتعالى زوال الدنيا وزواله.
وبجانب هذه البديهيات؛ فإن أهم مفهوم ينبغي أن يكون لدى الداعية، عن نفسه وعن مهمته، هو أنه راعٍ، وبالتالي وفق مقتضى الهدي النبوي الصحيح، هو مسؤول عن رعيته.. يقول الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم": "ألا كلُّكُم راعٍ وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعيته" [متفقٌ عليه].
وكما يقول الحديث النبوي؛ فإن هناك دائرة رعاية لكل راعٍ، ودائرة رعاية الداعية هنا، متعددة الأبعاد؛ حيث لا تعدُّ الدعوة بمفهومها المباشر؛ أنشطتها وآلياتها ووسائلها، فحسب هي دائرة رعايته؛ حيث الأمر أعقد من أن يكون بضعة كلمات يقولها للناس وكفى.
ولعلنا لا نكون مبالغين إذا ما قلنا، إن أهم مساحات رعاية الداعية، هي الداعية نفسه؛ حيث إنه حتى بالمنطق البسيط للأشياء، وهو المنطق الذي أكدته وقائع السنوات الماضية؛ لا يمكن للإنسان قبول أي شيءٍ من إنسان آخر، لا يطبق هذا الحديث على نفسه، ولا يلتزم بما يقول .
وهو حتى مبدأ إداري معروف نجده في كل أماكن العمل المؤسسية؛ فالانفلات/ الانضباط الإداري يبدأ من المستويات الإدارية الأعلى، فإذا ما كان المدير أو المشرف منضبطًا، فإن مرؤوسيه سوف يكونون كذلك، والعكس أيضًا صحيح.
وهو مبدأ نجده في السياسة، وفي المجتمع في الكثير من الأمور، فمن مأثور القول، أن "الناس على دين ملوكهم".
وحتى في أساليب الدعوة، هناك ما يُعرف بالدعوة بالقدوة أو النموذج؛ حيث يستمع إليك الناس، ويطيعون ما تقوله لهم من مكارم الأخلاق وغير ذلك تعاليم الدين، إذا ما كنت أنت تفعل ذلك أمامهم، حتى ولو لم تكن تخاطبهم بشكل مباشر.
وفي حقيقة الأمر، فإنه إذا ما كان أهم ما ينبغي توافره في الداعية، كان فيما مضى العلم الشرعي، بجانب مهارات الاتصال والتواصل مع الآخرين، إلا أن الكثير من تطورات الحدث في السنوات القريبة، تحتم أكثر ما تحتم، العمل على استكمال جوانب أخرى في شخصية الداعية، أو ما أشرنا إليه في العنوان بصلاح الدعاة.
ومن الأهمية في هذا الصدد التأكيد على أن المشكلات الحقيقية التي بات يواجهها الدعاة في عصرنا الحالي، لا تعود فقط إلى الصراعات التي خاضتها الجماعات والحركات الإسلامية مع عدد من الحكومات في العالم العربي والإسلامي، وما ترتب عليها من إجراءات من جانب الحكومات؛ تقييدًا أو تشويهًا، وإنما جزء كبير من الأزمة يعود إلى حقل أو مساحة الدعاة أنفسهم.
فالمؤسف أن بعض الأسماء ذات الشهرة، والتي كانت قدوةً ونموذجًا لجيل أو جيلين من النشء والشباب، ثبت أنها إما تعمل في مجال الدعوة كسبًا للمال والشهرة، أو طلبًا لأغراض لا علاقة لها برسالة الدعوة السامية، بل قد تتناقض معها أو أنه أتى ما نهى الناس عنه من أفعال وسلوكيات.
ولعل أثر مَن يُسمَّون بعلماء السلطان أقل خطرًا من هذه الفئات من "الدعاة" –مجازًا– ممن خانوا أمانتهم؛ حيث أمر علماء السلطان معروف، وأبعاد موقفهم مرصودة، ولا مصداقية لهم من الأصل على الجمهور.
وبنفس المنطق؛ فخطاب الحكومات ضعيف المصداقية عند الناس أصلاً؛ فلا يمكن بحال من الأحوال أن ننسب الظواهر السلبية الحاصلة في مجال الأخلاق وانصراف الناس عن العبادة ومظاهر التدين المختلفة إلى تضليل السلطات مثلاً.
إنما تكون الصدمة كبيرة –وفق كل قواعد علم النفس التي هي مفاتيح فهم ما خلق اللهُ تعالى فينا من صفات وسمات– عندما تأتي من الذين وثقنا فيهم، ووضعنا فيهم أملنا.
لقد بلغ من تأثير هذه المشكلة، أن انصرف الكثير من الشباب عن الدين، وفقدوا الثقة في دينهم ودنياهم، وباتوا يأتون ما نُهوا عنه فقدانًا منهم للثقة في محتوى كان فاقدو الثقة والأهلية هؤلاء يقولونه لهم.
وهي نقطة منطقية، ولا تتعلق بالمجال الدعوي في حد ذاته؛ حيث هو رد فعل طبيعي في أي مجال، ولنتصور مثلاً أن أحد العلماء المشاهير، اتضح لنا أنه قد حصل على شهادته بصورة غير شريفة، مزورة على سبيل المثال، وأن جامعته قد ساعدت في ذلك، وقتها سوف يفقد الناس الثقة المصداقية كل الجامعات في هذا البلد.
وهكذا تسير الأمور، وبالتالي؛ فإن أكبر خطأ يحدث في مساحاتنا الدعوية والحركية بشكل عام، هو الارتكان إلى التفسير السهل الذي يعفينا من المسؤولية: الحكومات مسؤولة عن الجرائم الحاصلة في المساحات الدينية والدعوية، بسبب حملات التشويه والحرب ضد الدعاة.
وكأن الحكومات هي التي طلبت من هذا الداعية الشهير أن يخرج على جمهوره في حملات إعلانية عن نوع من أنواع الدواجن "المفيد لصحة الإنسان ويعينه على حسن أداء العبادات"، أو أن الحكومات هي التي طلبت من داعية آخر ما فتئ يعظ الفتيات المسلمات بالحجاب والوقر في البيوت؛ صيانةً لأنفسهنَّ، بالزواج من فنانات غير محجبات!!
يجب أن نعترف أن جانبًا كبيرًا من المشكلة يقع في مساحاتنا نحن، وما لم تبدأ المؤسسات الإعلامية والتربوية والدعوية العاملة في هذه المساحات في حملة موسعة لجلب الثقة مرَّة أخرى للوجوه الدعوية، وللجهود المبذولة في هذه المساحات؛ فلن نستطيع أن نفعل أي شيء.