لقد وصفت سورة الدخان القرآن في مطلعها بأنه مبين، قال تعالى: “حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ " ووصفت الرسول أيضا في آياتها بأنه مبين: “ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِين".
وفي سرد قصة فرعون خلال السورة وصفت معجزة موسى بـ "سلطان مبين" قال تعالى على لسان موسى: “وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ".
وكل هذا يجلّي لنا وضوح هذه الرسالة وبيانها للناس، كما تؤكد مسؤولية الدعاة إلى الله في إيصال الحق للناس في أبلغ أسلوب وأوضح بيان، وأن يسعوا في إقامة الحجة بالدليل والبرهان على كل مجادل ٍ بالباطل.
كما بيّنت السورة أنّ في بيان الحق واهتداء الناس إليه رحمة من الله بعباده: “إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم".
فما من رحمة أعظم من إخراج الناس من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الهدى والإيمان، وما من خير يناله العبد في الدنيا والآخرة إلا وسببه هذا الوحي الإلهي الكريم، وما من شقاء يصيبه إلا بالإعراض عنه.
ثم توضّح السورة موقف أولئك الكافرين الذين يقابلون الحق المبين بالشك والريبة واللهو واللعب غافلين عن الحقيقة الكبرى التي خُلقوا من أجلها: “ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ".
وسيبقون في غفلتهم حتى تقرعهم الأهوال وينزل بهم العذاب: "فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيم" وإن أصّروا على غفلتهم كان الإمهال من الله إلى العذاب الأكبر يوم القيامة: " يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ".
ثم تمضي السورة على غرار القرآن المكي في الردّ على إنكار الكفار للبعث: “ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ * فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ".
ويردّ الله عليهم مبيّنا قدرته على الإحياء والإماتة، وأن الذي خلق أول مرة قادر على البعث تارة أخرى: “ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ " وأنّ لهم موعداً سيجمع فيه الأولين والآخرين: “ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ".
وأنه ليس من الحكمة أن يخلق الله الخلق عبثا، ويتركهم هملا بلا حساب أو جزاء: “ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ".
وتستطرد السورة في بيان بعض مشاهد الآخرة، حيث يتحمل كلّ إنسان مسؤولية ما عمل في هذه الحياة الدنيا، فلا يُغني أحدٌ عن أحد، ولا يتفع أحدُ أحداً: “ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ "
عندئذ يلقى كل فريق جزاءه، فأما الكافرون المترفون، فلا يهنؤون بطعام ولا شراب، ويصب ّعليهم العذاب من فوقهم، ويُدفعون دفعاً إلى وسط الجحيم: "إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ "
ثم تقول لهم الملائكة على سبيل الإذلال والامتهان: “ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ".
وأمّا المؤمنون، فمقامهم كريم، يهنؤون بأطيب طعام وأجمل لباس، في جنات الخلود: “ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ".
وتضرب السورة مثلين لقوم قريش في مكة، فأمّا المثل الأول فمثلٌ بعيد في الزمان والمكان وهو فرعون وقومه حين استكبروا عن الحق وطغوا في الأرض: “ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ " فكان عاقبتهم أن أهلكهم الله بالغرق، ونجّى الله موسى ومن آمن معه: “ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ " وتلخّص الآيات العظة والعبرة من قصة فرعون أن لا تغترّوا بما عندكم من القوة والسلطان فإنها لن تغني عنكم من الله شيئا إن لم تؤمنوا وبقيتم على كفركم: “ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ " وتؤكد أيضا على أنّ العاقبة للمتقين والنجاة للمؤمنين، وفي ذلك تسلية للنبي وأصحابه كي يزدادوا صبرا وثباتا على الحق، فإن قصة الطغيان تتكرر ولكن العاقبة واحدة: “ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ".
وأما المثل الثاني، فهو مثل قريب في الزمان والمكان، وهم قوم تبّع في اليمن: “ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ".
لتؤكد المعنى من جديد أنّ الهلاك والعذاب على من كفر قديما وحديثا، يقول الطبري في تفسيره ( فليس هؤلاء أي مشركو قريش بخير من أولئك، فنصفح عنهم، ولا نهلكهم، وهم بالله كافرون، كما كان الذين أهلكناهم من الأمم من قبلهم كفار).
وبعد... فيتبيّن أنّ الرسالة التي تبعثها السورة - لكل من يتأملها - أن القرآن حق وهو واضح بيّن، بما يحمل من الحجج والبرهان، وأن الله يسّره لمن أراد التفكر والتذكّر، وأنه سيكون دوما هناك فريقان: من يؤمن بهذا الحق ويبلغ به الآفاق، ومن يردّ هذا الحق رغم بيانه وحجته إما استكبارا وإما اتباعا للهوى، وعندها تكون المفاصلة بين الفريقين والانتظار حتى يأتي وعد الله الذي لا يتخلف بنصر المؤمنين وهلاك الكافرين: “ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ " .
هذا والله أعلم