لا بد أن نُقر أولًا حقيقةً لا ريب فيها، وهي أن تعدد الزوجات إلى حد الجمع بين أربعة منهن جائز شرعا للرجال بإطلاق، بنص القرآن الخالد إلى يوم القيامة، ومن يحاول في هذا الزمان المعاصر تحريم هذا الحلال أو تقييده أو الحد منه فهو يحارب الحلال الذي أحله الله، والذي يحارب الحلال الذي أحله الله هو في الذنب كمن ينشر الحرام الذي حرمه الله سواء بسواء.
ونحن هنا عندما نتحدث عن قضية تعدد الزوجات، فإننا نتحدث عنها من وجهة النظر التي تنظر للحياة المعاصرة وتتساءل: هل تعدد الزوجات هو الأكثر مناسبة لهذه الحياة المعاصرة بكل ما فيها، أم أن الإفراد هو الأكثر مناسبة؟
وأيا كانت الإجابة، فإن ذلك لن يغير في أصل المسألة شيئا، وأصل المسألة هو: جواز تعدد الزوجات، من غير ندب ولا كراهة.
وبالنظر لحياتنا المعاصرة بكل أبعادها يتبين في الحقيقة أن تعدد الزوجات هو الأكثر مناسبة لها من نواحي، ويتبين كذلك أن الإفراد هو الأكثر مناسبة من نواح أخرى.
فأما عن نواحي مناسبة التعدد أكثر فهي:
1- عصر الإباحية:
فلما أن كان هذا العصر هو عصر الإباحية بلا منازع، فقد انتشرت الإباحية في كل منفذ؛ في التلفاز والإنترنت وغيرهما...... كان على المجتمع أن يبحث عن تصريفٍ للشهوة المستعرة في مصارفها المشروعة. وذلك بالحث على الزواج وتيسيره من ناحية. وبالحث على تبكيره كذلك، على عكس ما يحث عليه من يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. فتبكير الزواج للفتيان والفتيات على حد سواء هو من السنة النبوية المصلحة والصالحة لكل زمان، بحيث أن لا يصل أمر التبكير بالزواج إلى حد تزويج الأطفال، أو من لم يبلغوا مبلغ الاستعداد للزواج جسديا وعقليا ونفسيا، فإن بلغوا ذلك المبلغ فإن السنة أن نسارع بتزويجهم.
وتعدد الزوجات، هو من المصارف المشروعة كذلك لهذه الشهوة المستعرة بفعل الإباحية المنتشرة، فإن أبسط تفكير عقلي منطقي سيقطع بأن تعدد الزوجات للرجال هو مما يساهم بقوة في إطفاء شهواتهم المستعرة، فيصرفهم ذلك عن الحرام الذي يتزين لهم ليلا ونهارا في كل ناحية وموطن.
وإذا ما تساءل متسائل مغرض: وأين شهوات النساء المستعرة كذلك بفعل الإباحية التي تثير شهوات الرجال والنساء على السواء؟
لقلنا له: شهوات الرجال بفعل الخلق الإلهي أكثر استعارا من شهوات النساء، وشهوات النساء تنطفئ بأقل مما تحتاجه شهوات الرجال لتنطفئ، وإذا ما انطفأت شهوات النساء فإن اشتعالها مرة أخرى يحتاج إلى وقت، وربما يطول هذا الوقت لأيام، وهذا على غير شهوات الرجال كذلك، ودليلنا على ما نقوله هو ما نراه ونعرفه، بحيث يعطينا دلائل قاطعة على أن شهوات الرجال غير شهوات النساء، واستعار هذه غير استعارة تلك في القوة والرغبة والحاجة إلى الإطفاء كل حين.
كما أن دليلنا يأتي كذلك من فقه القرآن والسنة، فعندما يُشرع الله التعدد للرجل، فإن هذا دليل قاطع على أن شهوة الرجل تقوى على ذلك التعدد وتحتاجه، في حين أن شهوة المرأة تكتفي بالرجل الواحد، وترضى به وتشبع.
2- ومَنْ للمطلقات والأرامل والعانسات؟!
وفي هذا الزمن المعاصر النكِد، نرى بأعيننا كثرة المطلقات والأرامل والعانسات، فمن يكون لهؤلاء؟ إلا أن يكون تعدد الزوجات هو الحل لهن، فلن يُقبل _في الغالب_ على الزواج بامرأة مطلقة أو أرمل أو عانس إلا رجل متزوج، فمن اليسير عليه أن يقبل بواحدة منهن كزوجة أخرى له.
وعن المطلقات، تُحدثنا الإحصائيات عن انتشار الطلاق في المجتمعات العربية والإسلامية، على غير ما كان من قبل، إلى حد أن تشير هذه الإحصائيات إلى وصول نسبة الطلاق في بلد عربي إلى حالة طلاق لكل حالتي زواج.
وعن الأرامل، نرى بأم أعيننا كثرة الموت المبكر الذي أصبح يخطف الرجال والنساء، ولكنه في الرجال أكثر بصورة ملحوظة، وذلك ما تشير إليه الإحصائيات كذلك.
وعن العنوسة في النساء فلنتحدث ولا حرج. فالعنوسة أصبحت مرضا معاصرا أصاب الأمة العربية والإسلامية، ولم يكن كذلك من قبل. فزيادة تكاليف الزواج، وزيادة بطالة الشباب المقبل على الزواج، كل ذلك أدى إلى زيادة العانسات بصورة تصل إلى حد القنبلة التي توشك أن تنفجر في المجتمع كله.
وأما عن نواحي مناسبة الإفراد أكثر فهي:
1- الضغط الاقتصادي الكبير:
فالحياة المعاصرة تحمل ضغوطا اقتصادية كبيرة على أرباب الأسر، وهي ضغوط لا تتوقف، وتزيد يوما بعد يوم، وخصوصا في المجتمعات العربية والإسلامية الفقيرة، وهي الأكثر مقارنة بالغنية فيها.
وأصل الزواج ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف(من استطاع منكم الباءة فليتزوج).
وقد فسر العلماء الاستطاعة هنا باستطاعات كثيرة، ومنها بل وأولها: الاستطاعة الاقتصادية.
حيث وجوب أن يستطيع المتزوج الإنفاق على زوجته وأبنائه المنتظرين، فإن لم تكن له استطاعة، فلا يجب له الزواج، وربما لا يجوز.
وإذا كان الزواج بابا من أبواب الرزق كما يقول علماؤنا، وهو ما استشفوه من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والتي منها توجيهه للرجل الذي شكى إليه فقره، حيث قال له (اذهب فتزوج).
إلا أن الجمع بين الأحاديث، مع النظر العقلي المنطقي، ليؤكد على أن الراغب في الزواج، لا بد أن تكون عنده القدرة المالية للإنفاق على أهله، ولو بالحد الأدنى. فإن لم يكن الحد الأدنى متوفرا فليس عليه أن يُضيّق على نفسه أكثر وعلى أهله المنتظرين.
فإذا كان ذلك في شأن الزواج بامرأة واحدة، فهو كذلك شأن التعدد والزواج بأكثر من امرأة، فليس على فقير الحال أن يجمع إلى زوجته زوجات أخريات، فيزداد الفقر والعوز. وإن كان خائفا من التقلبات الاقتصادية التي تحدث، فليس عليه أن يزيد تخوفاته بالزيادة في أهله الذين سيتكفل بهم.
2- الضعف الجنسي عند الرجال:
إذا كانت قوة شهوة الرجال وتعديها عن شهوة النساء واحتياجها إلى تعدد المصارف، وتهييجها الدائم بالإباحية المنتشرة من الأسباب التي تجعل التعدد هو الأكثر مناسبة لهذا العصر.
فإن الضعف الجنسي الذي أصبح كأنه حال عام عند الرجال هو مما يجعل الإفراد هو الأكثر مناسبة.
ومعروف تماما ما وصل إليه حال الضعف الجنسي عند رجال العصر الحديث، فلا قيام لهم بالمعاشرة إلا بالمعينات الكيميائية من حبوب وعقاقير وغيرها، وكذلك بالمعونات غير الكيمائية كذلك.
الضعف الجنسي عند الرجال في عصرنا الحديث ظاهرة عامة، وهو ما يدعو للتساؤل: كيف يُقبل الرجال على التعدد، وهم لا يقدرون على إشباع شهوة زوجة واحدة من غير معينات دوائية وغذائية. ومن معاني الباءة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السالف (القدرة الجنسية) كما وضّح العلماء والمفسرون.
فإذا كان ضعف القوة الجنسية يمنع الرجل من الزواج بامرأة واحدة، فإن ضعف هذه القوة يمنع من التعدد، حتى ولو كان هذا الضعف ضعفا غير قاطع، بحيث يستطيع معه الرجل أن يعاشر، غير أن معاشرته تكون بضعف لا يشبع المرأة ولا يكفيها ولا يعفها. مع الأخذ في الاعتبار، أن الضعف الجنسي عند رجال العصر الحديث، يزيد عاما بعد عام، كلما تقدم الرجال في العمر.
وإذا كان الرجل يقدر اليوم على التعدد، وإعطاء كل امرأة حقها في الشهوة والرغبة، فإنه سيعجز غدا لا محالة، وسيرى نفسه حينها مقصرا في حق كثيرات، بدل أن يكون مقصرا في حق واحدة فقط، تتحمل تقصيره وتتعايش معه.
لفت انتباهي تبويب الإمام النووي في كتابه الشهير (رياض الصالحين) لباب الزهد تحت عنوان (الزهد في المأكول والملبوس وكذا وكذا .........)، وقلت: ولماذا لم يذكر الإمام النووي الزهد في المنكوح كذلك. فإذا كان الزهد (أي التقلل) مطلوبا في كل متع الدنيا، فلماذا لا يكون مطلوبا في الزواج، بحيث يكتفي الزوج بواحدة، ويزهد في تعدد الزوجات حتى لا ينشغل بهن كما ينشغل بأي متعة دنيوية أخرى عن دينه وآخرته.
لكن، لعل أحدهم يقول: التعدد هو الأصل الذي بنى الله عليه الحياة الدنيا، فاحتياج الرجل للتعدد احتياج ضروري لا تحسيني، بحيث لا تُكفى شهوته إلا به، ولذلك فلا زهد في أصل ضروري. بل إن عدم اكتفاء الشهوة عند الرجل، وعدم إشباعها بالتعدد، هو الذي يُخشى منه أن يشغله عن دينه وآخرته، فإن لم يكن بالفعل الحرام، فبالتفكير والتطلع الذي لا ينقطع.
ومما لفت انتباهي أيضا في هذه القضية، أن الحركة الإسلامية المنظمة في بلد ما، ولا أدري هل كان ذلك في كل بلادها أم لا، كانت تعتمد توجها يدعو أعضاءها إلى عدم التعدد، رغبة منها في أن لا يزداد انشغال الأعضاء بكثرة الزوجات والبيوتات والأبناء عن الحمل الثقيل الذي نذروا أنفسهم له؛ حمل القيام بنهضة هذه الأمة دينيا وسياسيا وحضاريا.
ومما لا شك فيه أن كثرة الزوجات والأولاد والبيوت المكفولة، هو مما يشغل الرجال، اقتصاديا وذهنيا، إلى حد الإغراق، وعدم بقاء متسع لأي شاغل آخر.
لكن، لعل أحدهم يقول: أكبر ما يشغل الرجال دائما، الشهوة والجنس، وهو شاغل ناري، لا بد من إطفائه، بل وإطفائه إطفاء كاملا، ولا يكون ذلك إلا بالتعدد. فإذا انتهى أمر هذا الشاغل، وضُيّق عليه المجال إلى أضيق درب، فكل شاغل بعده مقدور عليه.
تبقى قضية التعدد مطروحة دائما، ويبقى جوازها دائما، ويبقى الحديث عن مناسبتها للعصر أو عدم مناسبتها قائما.
ويبقى أصل من الأصول المهمة بقاءُ اعتبارها قضية فردية، أي أن مناسبتها أو عدم مناسبتها خاص بكل فرد على حدة، فما يكون مناسبا لواحد، ليس شرطا أن يكون مناسبا للآخرين.
يبقى أصل من الأصول المهمة بقاءُ اعتبارها قضية فردية، أي أن مناسبتها أو عدم مناسبتها خاص بكل فرد على حدة، فما يكون مناسبا لواحد، ليس شرطا أن يكون مناسبا للآخرين
وحديثنا عن المناسبة وعدم المناسبة للعصر الحديث عموما، هو حديث عموم على الغالب، مع الوضع في الاعتبار أن لكل رجل حكايته الخاصة. ولذلك فليس على الدول ولا على التجمعات والجماعات أن تعمد إلى توجيهات بالتحفيز على التعدد أو بالحد منه، إلا لضرورة قصوى، والضرورة تقدر بقدرها.