للقرآن الكريم أوجهٌ كثيرة لإعجازه، أشهرها إعجازه اللغوي، الذي تحدى به الله أولا أهل اللغة والبلاغة من العرب.
وهناك إعجازه التشريعي، حيث التشريعات والقوانين التي تضبط حياة الفرد والجماعة والدولة.
وهناك إعجازه العلمي، وهو الإعجاز الذي تحدث عنه بعض علماء الإسلام المُحدثين، الذين انتبهوا للإشارات العلمية في القرآن؛ الكونية والطبية وغيرها، والتي رأوا أنها هي أول ما يجب أن نُحدث الناس به في العصر الحديث؛ عصر العلم بلا منازع.
وكذلك هناك الإعجاز العددي في القرآن، وهو الإحصاءات العددية والرقمية التي تعطي إشارات تاريخية أو مستقبلية.
ونحن هنا، بصدد الحديث عن وجه معين من هذه الأوجه، ألا وهو وجه إعجاز ترتيل القرآن.
فترتيل القرآن بالطريقة المعروفة، هو ترتيل مُعجزٌ، وهو من أظهر وجوه إعجاز القرآن، بل إنه أول ما يلفت الانتباه من هذه الوجوه كلها، مع بلاغة القرآن وسياقه اللغوي؛ ذلك لأن ترتيل القرآن بتلك الطريقة الخاصة المعجزة هو أول ما يقابله المُطلع على القرآن الباحث فيه المستمع له.
فصياغة القرآن اللغوية المُرتلة هي الباب الذي يُولج منه إلى أوجه إعجاز القرآن الأخرى، مع التدبر والبحث.
وفي الحقيقة -من وجهة نظري- أن كفار قريش عندما أذهلهم القرآن لمّا تُلي عليهم، لم يكن سبب ذهولهم صياغته اللغوية والتعبيرية فقط، وإنما كانت طريقة قراءته وترتيله هي من أسباب ذهولهم كذلك. فصياغة القرآن اللغوية مرتبطة ارتباطا وثيقا بطريقة ترتيله، وهي الطريقة التوقيفية، التي نزلت من عند الله، كما نزلت سور القرآن وآياته.
سحر القرآن عندما يتلى على الأسماع يأتي من صياغته اللغوية الفريدة وطريقة ترتيله الفريدة كذلك . ولذلك فإن الدعاة الذين يرتلون آي القرآن ترتيلا مُحكما عندما يستشهدون بآياته في خطبهم ومحاضراتهم، كترتيلهم له في صلاتهم، هم -في رأيي- أكثر الدعاة إصابةً، فإن القرآن قد نزل مرتلا، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بترتيله حين قال له (ورتل القرآن ترتيلا).صياغة القرآن اللغوية مرتبطة ارتباطا وثيقا بطريقة ترتيله، وهي الطريقة التوقيفية، التي نزلت من عند الله، كما نزلت سور القرآن وآياته
ولا مانع من الاستشهاد بآيات القرآن الكريم في مواطن الاستشهاد من الخطب والمحاضرات بغير ترتيل مُحكم، غير أن الترتيل المحكم لآيات القرآن عند الاستشهاد بها يحمل معه نصف التأثير على العقول والقلوب. فهذا التنغيم الترتيلي الإلهي لآيات القرآن يفتح لها أبواب القلوب أكثر للتأثر والانفعال، كما يفتح لها أبواب العقول أكثر للتدبر والفهم.
وقد رأينا فيديوهات لأناس غير مسلمين وغير ناطقين بالعربية يستمعون لآيات قرآنية مرتلة بأصوات عذبة فينفعلون أشد الانفعال وتنهمر دموعهم وهم لا يفهمون الآيات. وبالقطع فإن أداة التأثير الواضحة فيهم هنا هي طريقة الترتيل المعجزة، التي أنزلها الله عز وجل وعلمها لنبيه صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل عليه السلام، كما علمه الآيات والسور آية بآية وكلمة بكلمة.
ولذلك فإن طريقة تعلُّمِ قراءة القرآن، لا بد أن تكون شفاهة بالسند المتصل من شيخ إلى شيخ، إلى أن يصل السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي الطريقة المشروعة المُحكمة. أما أن يأخذ قارئُ القرآن قراءته من غير هذا الطريق، أو من المصحف مباشرة، دون مُعلِّم بسنده المتصل، فهو ما يُحدث الخلل الكبير في قراءة القرآن مرتلا بأحكام ترتيله. وقديما قالوا (لا تأخذوا القرآن من مُصحفي).
كان لنا صديق في الجامعة، من أهل القرآن، الذين يحفظونه، ويرتلونه محكما. وكان هذا الصديق يرتل علينا كثيرا، وأحيانا يضاحكنا فيرتل علينا الأخبار والمقالات من الجرائد بطريقة ترتيل القرآن.
من الممكن أن تكون في هذا الأمر شبهة حرمة أو كراهة، لأن الترتيل القرآني هو ترتيل إلهي له من جلاله وجماله ما يجعله خاصا بالقرآن، فلا يجوز أن يكون في غيره من كلام البشر، ولو على سبيل التضاحك.
لكن الشاهد، أن صديقنا هذا، لم يكن يستطيع أن يرتل أي كلام آخر غير القرآن، بنفس جودة وإحكام تلاوة القرآن، بحيث يستطيع أي إنسان لا يحفظ شيئا من القرآن أن يعرف ما يرتله صديقنا؛ إن كان قرآنا أو كان كلاما آخر.
فصياغة القرآن الإلهية صياغة معجزة مرتبطة بترتيلها المعجز ارتباطا لا يصح أن يكون في أي كلام آخر.
فموسيقى القرآن التي وضعها الله في نسق آياته وكلماته وحروفه، تجعل ترتيله ترتيلا موسيقيا معجزا، كأنه معزوفة محكمة لها أنغامها المحكمة في كل حركة وسكنة.
ولن يكون هناك كلام بشري مهما كانت بلاغته في هذا الإحكام التنسيقي بين حركاته وسكناته، ليرتل بهذا الترتيل الموسيقي الفريد؛ العزف الإلهي المنزل.
في العزف الموسيقي لا بد أن تكون كل جملة موسيقية في مكانها، وفي العزف القرآني لا بد أن تكون كل حركة وكل سكنة من كل كلمة في مكانها. ويشبه ذلك إلى حد ما، ما في الشعر العربي من التناسق العروضي في كل بيت شعري، والتناسق العروضي في الشعر مرتبط بترتيب الحركات والسكنات فيه، بحيث لو سبقت حركةٌ سكونا، أو سبق سكونٌ حركةً، لاختل هذا النسق العروضي.
الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (اللغة الشاعرة) يتحدث عن أن اللغة العربية لغة تملك موسيقى خاصة في صياغتها، عن طريق ترتيب حركاتها وسكناتها في الكلمات، ولا توجد هذه الموسيقى في أي لغة أخرى بهذا الإحكام والإعجاز، وبذلك كانت اللغة العربية هي أقدر اللغات على صياغة الشعر، لأن الشعر بموسيقاه يحتاج لمثل هذه اللغة التي تحمل هي نفسها قدرا من الموسيقى الداخلية.
وفي كتاب (إعجاز القرآن) للأستاذ مصطفى صادق الرافعي، يستطرد الأستاذ الرافعي في تفصيل أوجه إعجاز القرآن، فيعنون فصلا بعد فصل بهذه العناوين المتتابعة (إعجاز الآيات في السور.....إعجاز الكلمات في الآيات...... إعجاز الحروف في الكلمات).
وهذا هو قرآننا الكريم، القرآن الذي صيغ بلغة عربية معجزة في صياغاتها وتركيباتها، والتي تحمل موسيقاها الخاصة في حركاتها وسكناتها. ثم إن القرآن مع ذلك، صاغه الله بصياغته الربانية الخاصة، التي تحمل خصوصية موسيقية فوق خصوصية اللغة العربية الموسيقية، بإعجاز أكبر في ترتيب الحروف بحركاتها وسكناتها، وفي ترتيب الكلمات، وفي ترتيب الجمل بوقفها ووصلها.
فليجرب كل منا ذلك، مع نفسه أو مع آخرين.... ليقرأ بعض آيات القرآن مرتلة، ثم ليحاول قراءة أي كلام آخر مرتلا كذلك، ولينظر الفارق الكبير بين الترتيلين، فإن استطاع أن يبدأ في ترتيل الكلام البشري ويستمر فيه بعضا من الوقت، فسرعان ما سيجد صعوبة في الاستمرار أكثر، لأنه كلام بشري لم يُصغ تلك الصياغة القرآنية الربانية، التي صيغت ليرتل القرآن بها ترتيلا.
وليتذكر حينها الذي يجري هذه التجربة قول الله تعالى ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)، وليعلم أنه -ربما- يكون من هذا الاختلاف الذي سيجده في كلام البشر، ذلك الاختلاف الموجود في الصياغة بترتيب كلماتها وحركاتها وسكناتها، بما يفقده هذه الموسيقى الترتيلية القرآنية الربانية المعجزة.