إن أولى أولياء الله عز وجل بعد أنبيائه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ذلك الذي وصل في ولايته إلى درجة أن قال القائلون: كاد أبو بكر أن يكون نبيا.
والذي أقر النبي صلى الله عليه وسلم بسبقه، وبسبب هذا السبق، في قوله (ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام، وإنما سبقكم بشيء وقر في صدره) رواه الترمذي.
إذن، لم يسبق أبو بكر غيره بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام، ولكنه سبق بالإيمان واليقين والحب والخوف، هذه المعاني التي تستقر في القلوب، فتكون الأعمال العبادية بعدها أعمالا طبيعية دالة على هذه المعاني ومؤكدة عليها.
أما أولئك الذين يصلون ويصومون، ولا يكون لذلك أثرٌ حقيقي لإيمانهم بالله ويقينهم فيه وحبهم له وخوفهم منه، ولا يكون لذلك بعد ذلك أثر في زيادة الإيمان واليقين والحب، فلا حاجة لله في صلاتهم وصيامهم.
هذه هي أول علامات القرب الحقيقي من الله، والولاية الحقيقية له.
ثم إن هناك علامات أخرى كثيرة..
ومن أهم هذه العلامات -في رأيي- حال الإنسان في الأفراح والأعياد، وحاله كذلك بعد مواسم الطاعات.
ففي الأفراح والأعياد، يميل الناس في عمومهم إلى شيء من عدم الانضباط الديني. والمؤسف أن هذا يحدث للمتدينين أنفسهم، أو لكثير منهم، وبدرجات متفاوتة من عدم الانضباط.
كأن نرى مثلاً تساهلاً في لباس النساء، وتساهلاً في الاختلاط الشائن بين الرجال والنساء.
وقد كنت في أحد الأعراس من أيام، وهو عرس لابنة أحد المعارف، وهو شيخ متدين ملتح، وامرأته كذلك من بيت دين والتزام، وعلى الرغم من ذلك، أدهشني وجود مكبرات صوت يعلو منها غناء الخلاعة والفسق. ولم أستطع أن أحدث الرجل في الأمر، وأنا أعلم أن رده سيكون: فرحٌ يا شيخ، والله غفور رحيم.
ولننظر إلى حال الناس في الأعياد، وبُعدهم عن الله في كل شيء، البعد الذي جعلني أقول في العيد قبل السابق: هذه لم تعد أعياداً للمسلمين، وإنما هي أعيادٌ لأهل التبرج والفسق والخلاعة.
بل وحتى صلاة العيد في الخلاء، والتي هي سنة مؤكدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يُروى عنه أنه لم يصل العيد في المسجد إلا مرة واحدة، لمطر اضطره لذلك.
إلا أن صلاة العيد في الخلاء أصبحت مهزلة أخلاقية في بعض المناطق، يختلط فيها الرجال بالنساء اختلاطاً شائناً، ويتعرض فيها السفهاء لنساء المسلمين، مما جعلني أقول: لقد أصبحت صلاة العيد في المسجد خير من صلاتها في الخلاء مع ما نشاهده ونراه.
في ظل كل هذا الانفلات الأخلاقي والالتزامي في الأعياد والأفراح والأعراس، يظهر أولياء الله حقا، أولئك الذين لا يتنازلون عن دينهم وأخلاقهم، لفرح أو لعيد، وإنما يُعيّدون ويفرحون بضوابط الدين والأخلاق.
في ظل كل هذا الانفلات الأخلاقي والالتزامي في الأعياد والأفراح والأعراس، يظهر أولياء الله حقا، أولئك الذين لا يتنازلون عن دينهم وأخلاقهم، لفرح أو لعيد، وإنما يُعيّدون ويفرحون بضوابط الدين والأخلاق.
بل، ويذكرون الله كأكثر ما يكون ذكره وأخلصه في مثل هذه الغفلات، وهذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم (العبادة في الهرج كهجرة إليّ). ومن معاني الهرج: الفتنة والاختلاط الشديد، وهذا ما يحدث عادة في الأعياد والأفراح.
ولن أنسى يوما، ذهبت فيه إلى أحد المشايخ الذين علموني القرآن، وكان يوم عيد، وكانت زيارتي له في حوالي الساعة العاشرة صباحا قبل الظهر، وهي الساعة القصوى للهرج والمرج في الأعياد، فوجدته يفتح مصحفه، ويرتل القرآن بصوته الخاشع.
ولن أنسى كذلك، أيام أن كانت المساجد في بلادنا مفتوحة في وجوهنا، ولم يكن الظالمون قد أغلقوها كما هو اليوم، وكنا نجتمع في الليلة التي قبل نهار العيد، ونحيي هذه الليلة بالقرآن والصلاة.
وهي الليلة التي يكثر فيها الهرج والمرج كذلك، ولذلك فهي الليلة التي استحب بعض العلماء إحياءها.
وفي مثل هذا، جعل الله الأجر الكبير لصلاة الضحى، لأنها تكون في الوقت الذي ينشغل فيه الناس بمصالح الدنيا كأكبر ما يكون الانشغال.
وملمح مماثل لذلك، نجده بعد مواسم الطاعات.
فقد جعل الله مواسم لزيادة الطاعات، وهي مواسم يضاعِفُ الله فيها الأجر، ويستجيبُ فيها الدعوات، وقد جاء توجيه النبي صلى الله عليه وسلم باستغلال هذه المواسم، والتعرض لها. وقال في ذلك في الحديث الذي رواه الطبراني: (إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدًا).
والعجيب أننا عندما نريد أن نرقب أولياء الله، كما رقبناهم آنفا في مواسم الهرج والمرج، فإننا لا نرقبهم هنا في مواسم الطاعات، لنعرفهم من كثرة عبادتهم فيها، فإن أغلب الناس يكثرون من الطاعة في مواسمها، بل إننا نجد في بعض الأحيان أن أكثرَ الناس بعدا عن الطاعة طول عامهم، هم أكثر الناس إقبالا عليها في مواسمها.
أقول: إذا أردنا أن نرقب أولياء الله لنعرفهم، فإن علينا أن نرقبهم بعد مواسم الطاعة لا فيها، فإن الغفلة التي تكون بعد مواسم الطاعة أشبه بتلك التي تكون في مواسم الهرج والمرج في الأعياد والأفراح.
ففي مواسم الطاعة يُكثر الناس من الطاعة إلى حد الإشباع والإجهاد، وهنا تكون فرصة الشيطان سانحة فيما بعدها، لإغواء نفوس قد جَهِدت وتشبعت من أجل أن تستريح وتستروح، فيكون قعودها عن أقل حد مقبول من العبادات والشعائر.
وهنا، نرقب أولياء الله حقا، أولئك الذين يعودون من مواسم الطاعة، بقوة إيمانية تجعلهم يزيدون في عباداتهم وشعائرهم.
فإذا ما احتاجت نفوسهم وأجسادهم للراحة، فليس أقل من الحد الأدنى من العبادات والشعائر، التي لا يصح أن ينقص المسلم عنها، أو بتعبير أدق (أن ينقص الوليُّ عنها).
قال لي أحدهم: لا بد من سقوط عبادي وأخلاقي لي، بعد كل اجتهاد في العبادة، في مواسمها.
وآخرٌ كان يغتم وهو في قلب عبادته وشِرته فيها، وهو معتكف في مسجده، عندما يفكر في حاله الذي سيؤول إليه بعد خروجه من معتكفه، وبعد مضيّ موسم الطاعة الذي هو فيه.
في مواسم الطاعات، لا نستطيع أن نميّز بين الأولياء الخلصاء، وبين غيرهم من عموم العبّاد والطائعين، فكلهم يجتهدون فيها، بل إننا ربما نجد بعض عموم الناس أكثر عبادة فيها من الأولياء والخلصاء، لأنهم حينها يقبلون على شيء هم محرومون منه طوال العام، فتكون الشِّرة ويكون النهم، اللذان ينقصهما الاتزان والتروي.
يشبه ذلك حال الذي وجد ماء عذبا فراتا، بعدما بلغ منه العطش مبلغه. لكن العجيب في المسألة هنا أنه يجد أمامه الماء طوال العام فلا يُقبل عليه، ويَبقى بعطشه هذا منتظرا ذلك الموسم، ليشرب منه حينها بغير أناة وبغير تروٍّ، ثم يعود بعد شبعه إلى ترك الماء طوال عامه مرة أخرى، لينتظر عودة الموسم مرة أخرى.
أما الأولياء، فإنهم في حال دائم من الطاعة والعبادة، فإذا جاء موسم طاعة، فإنهم لا يقبلون عليه بنهم وشِرّة من شدة فقدهم للطاعة طوال العام، ولكن من الرغبة في الزيادة من الشبع، وهو ما يكون بعقل واتزان، لا بنهمِ وشِرّةِ العطشانين الفاقدين.