بلا شكَّ أن التجديد أمر مطلوب، والتجديد صنو التطوير، الذي يضمن البقاء، ومن دونه لا يمكن لأي كيان، فكرة/ مجتمع/ دولة.. إلخ، الاستمرار؛ حيث هو قانون عمراني وضعه اللهُ تعالى كربٍّ خالق مُدَبِّر لهذا الكون، وقيُّوم عليه إلى يوم أن يرثَ اللهُ تعالى الأرض ومَن عليها.
وأهمية التجديد والتطوير تكمن في أكثر من جانب، منها أنه أساس مواكبة هذا الكيان للمستجدات، وقابليته للتعامل معها.
وفي حالة الأفكار والأيديولوجيات والفلسفات؛ فإن أهم وظائفها، وهي تلك المتعلقة بتقديم إجابات للإنسان على أهم الأسئلة الوجودية التي تواجهه في الدنيا، مثل "مَن أنا" و"لماذا خُلِقْتُ"، والأهم؛ كيف جئتُ إلى الدنيا، وكيف أتعامل معها؛ فإن التجديد والتطوير يفرضان أنفسهما بلا شك إذا ما أراد أتباع هذه الفكرة أو تلك، لها الاستمرار والبقاء على قيد الحياة.
إذًا؛ لا خِلاف على المبدأ؛ مبدأ التجديد وما يتطلبه من تطوير وسِعَة أفق، إلا أنه، وهذا بدوره قانون عمراني، له قواعده وضوابطه، وإلا تحول التجديد إلى تغيير لهوية الفكرة بالكامل.
فتطوير الفكرة الرأسمالية أو الشيوعية أو الماركسية مثلاً، أمر مختلف عن إلغاء ثوابتها وأركانها؛ التي من دونها لا تكون الرأسمالية، رأسماليةً، ولا تكون الشيوعية أو الماركسية كذلك.
وهو أمر يؤكده لنا التاريخ. فعندما أدت وحشية الرأسمالية المطلقة كما كانت مُطَبَّقَةً في أوروبا في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، وظهرت الأفكار الماركسية التي تدعو إلى ثورة عمالية على المظالم الاجتماعية المرتبطة بنسخة الرأسمالية المطلقة في ذلك الوقت، بدأت بريطانيا على وجه الخصوص، وقت حكومات حزب العمال، في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في إدخال تعديلات تراعي الأبعاد الاجتماعية في نمط النشاط الاقتصادي الرأسمالي، تفاديًا لحدوث مشكلات واضطرابات اجتماعية تطيح بالمنظومة ككل.
فظهرت منظومات الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي، وتم تعديل عدد ساعات العمل، ووقف العمل بالنسبة للنساء في المهن الخَطِرة، وغير ذلك من الأمور التي أدت إلى ظهور ما يعرف بالرأسمالية الاجتماعية.
إلا أنها ظلت في الأخير؛ رأسمالية، تعمل وفق قواعد السوق الحر المعروفة، والتي تشمل حرية انتقال عناصر الإنتاج، والتي منها رؤوس الأموال والعمل والمواد الخام، وحرية الحركة في الأسواق، وغير ذلك.
في هذا الإطار، ومنذ سنوات مضت، نقرأ عن ما يُطلَق عليه مصطلح "تجديد الخطاب الديني".
وفي حقيقة الأمر؛ فإن هذا لا غبار على مثل هذه الدعوات؛ تجديد الخطاب الديني؛ مراعاةً للمستجدات، وما تتطلبه من أمور جوهرية، مثل مراعاة تطور العقليات في عصر العلم والرقميات، وتطور وسائل الاتصال والتخاطُب، وحتى انتشار المسلمين في كافة أرجاء الأرض، ومنها أماكن هم فيها بمثابة أقليات، أو حتى جاليات طارئة، أو يعيشون ظروفًا استثنائية مثل مسلمي البلدان القطبية؛ لجهة تحديد مواقيت الصلاة والصوم وكذا.
إلا أن هناك خلط حصل كالعادة في مثل هذه الأمور؛ حيث إن الحماسة الزائدة، أو دخول غير الدراسين المتخصصين على خط الدعوة والعمل الإعلامي في مساحات قضايا العمل الإسلامي المختلفة، أو حتى على سبيل نظرية المؤامرة؛ خرجت بعض الأصوات التي تنادي بتجديد الدين نفسه، أو تغيير نمط تعاملنا مع قواعده والتزامنا بها وبأحكامه، وفهمنا لها بصورةٍ تخرجنا عن مقاصد الشارع الأعظم منها.
فتغيير الفهم لا مشكلة فيه، وهو كان منهج أئمة عِظام، مثل الإمام الشافعي، إلا أنه، حتى كبار الأئمة الذين تحركوا في مساحة الموازنات، والمصالح المرسلة وأثرها على تطبيق الحكم الشرعي، مثل الإمام الشاطبي، لم يقولوا مطلقًا بأمرَيْن نجدهما الآن حاضرَيْن، وبقوَّةٍ في الخطاب العام.
الأمر الأول، هو تغيير الأحكام الشرعية ذاتها، والأمر الثاني، هو القول بأن ما ثبُت منها يقينًا ونصًّا في القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النبوية، كان عبارة عن انعكاس للبيئة والزمن اللذَيْن نزل في إطارهما النص القرآني، أو قيل في إطارهما النَّصُّ النبوي، مثلما نسمع الآن عن آيات المواريث أو حجاب المرأة المسلمة.
وهنا لابد من وقفةٍ لتوضيح الفارق بين الدين –أيًّا كان مصدره– وبين الأيديولوجيات والفلسفات الوضعية؛ حيث الفلسفة الوضعية أو الأيديولوجية هي في الأخير، عبارة عن تصور له شيءٌ من الشمول عن الحياة وكيف نحياها، إلا أنها في النهاية، عبارة عن إطار اختياري خاضع للتبديل والتغيير من جانب الإنسان، بحسب ظروف حياته، وتطورها، وليس له صفة الإلزام.
وإن أخذت الفلسفة أو الأيديولوجية صفة الإلزام لدى إنسان ما؛ فهذا يعني أنه إما أن الإنسان قد حوَّل هذه الفلسفة أو الأيديولوجية إلى عقيدة، أو أنه عضو في جماعة أو تنظيم، في الغالب يكون سريًّا، يؤمن بهذه الفلسفة أو الفكرة، ويحظر على أعضائه الخروج عنها تحت طائلة الاستهداف والقتل.
فالدين، إطار عَقَدي يقيني، يوقر في نفس الإنسان، ويصاحبه العمل، ومصدره غير بشري، وبالتالي؛ فهو يتسم بصفة الشمول والإلزام للإنسان.
والإلزام وفق منظور الدين، يكون خاضعًا للقوة أو القدرة التي يؤمن بأنها هي التي خلقته، وهي التي منحته ما يملك من مُقَدَّرات، وسوف تحاسبه في الدنيا والآخرة؛ بالمثوبة إن أحسنَ، وبالعقاب إن أخطأ، وبالتالي؛ فهو يراقب هذا الكيان –الإله الذي يؤمن به– في كل ما يفعله ويقوم به، ويخشاه، ولا يتجاوز تعاليمه مخافة عقابه.
الدين بطبيعته، كلٌّ متكامل؛ لا يجوز، وليس من المنطقي أصلاً، الأخذ منه والترك وفق الهوى أو الظرفية أو ما شابه؛ لأنه ليس من لدن بني الإنسان، وإنما من لدن الإله الخالق.
ومن بين أهم أركانه –وفق هذا المنظور– التسليم والإذعان، المنبني على الفهم، وبالتالي؛ فإنه في هذا الإطار؛ فالدين بطبيعته، كلٌّ متكامل؛ لا يجوز، وليس من المنطقي أصلاً، الأخذ منه والترك وفق الهوى أو الظرفية أو ما شابه؛ لأنه ليس من لدن بني الإنسان، وإنما من لدن الإله الخالق.
وحتى "الترك" هذا فيه، في حالة دين محكمٍ قويم شامل مثل الإسلام، لأنه نزل من الإله الحق، ربِّ السماوات والأرض، وخالق كل شيء؛ فإن له قواعده وظروفه وملابساته التي حددتها الشريعة الإسلامية نفسها، مما يثبت أن الإسلام دين الحق؛ حيث هو وفق هذا المنظور، قد أتى من عند الذي خلق، وأعلم بخلقِه وشؤونهم، ويعلم الغيب وما هو آتٍ؛ فأنزل ما يلائم حال الناس في الواقع والمستقبل، وما يحفظ على الناس مصالحهم.
في كتابه العزيز، يقول اللهُ تعالى: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" [سُورَة "البقرة" – من الآية 85].
هذا القول، نزل في بني إسرائيل، عندما ذهبوا إلى منطق بعض ما يذهب إليه عدد من الدعاة أو مُدَّعي العلم في عصرنا الحالي، في فضائنا الإسلامي، باسم التجديد، الموازنات والموائمات وروح العصر!!