مع بداية السنة الهجرية الجديدة، نستذكر حادثة الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة والتي حدثت في ربيع الأول -وليس في محرم كما يظن البعض- والتي تمثل حدثاً فاصلاً بين الاستضعاف والتمكين، بين التفرق وبين الدولة، حتى انعكس ذلك على الخطاب القرآني، بحيث عرف عندنا في علوم القرآن بعلم المكي والمدني، وهو على رأي بعض العلماء يعتمد على حادثة الهجرة، ولكل منهما خصائص مختلفة في الخطاب القرآني يرجع إليها في مظانها.
لا تشكل الهجرة النبوية حدثاً تاريخياً فحسب، بقدر ما تشكل نهجاً واضحاً يتمثل برفض الرضوخ للواقع المر والتعايش معه ، والسعي لتغييره وتحقيق الرؤى والبرامج في حال وضعت العراقيل وحيل بيني وبين تحقيق ما أبتغيه.لقد كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يستمر في حالة الاستضعاف في مكة، صابراً محتسباً على البلاء، يبشر أصحابه بالجنة وقرب زوال الظلم، ويراهن على اختلاف الظالمين فيما بينهم، أو ينتظر أن تتاح له الفرصة ليخفف ما وقع عليه من بلاء، فأهل مكة هم أهله وأقاربه، تربطهم العديد من الأواصر، والدعوة الإسلامية -رغم ما تتعرض له من أذى وقمع- تستقطب العديد من خيرة أبناء مكة، إلا أن البقاء على هذه الحالة هو ضياع للفكرة، وقتل لمقصد هذا الدين الذين جاء لينظم حياة الناس وفق ما يراه الشارع في جميع شؤون الحياة وليس في مجال العبادة أو جزء محدود منها.
لقد كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يستمر في حالة الاستضعاف في مكة، صابراً محتسباً على البلاء، يبشر أصحابه بالجنة وقرب زوال الظلم، ويراهن على اختلاف الظالمين فيما بينهم، أو ينتظر أن تتاح له الفرصة ليخفف ما وقع عليه من بلاء، إلا أن البقاء على هذه الحالة هو ضياع للفكرة، وقتل لمقصد هذا الدين الذين جاء لينظم حياة الناس وفق الشرع في جميع مجالات الحياة
لم تكن خطوة الهجرة مجرد أمر نجح من باب المصادفة، بل سبقها عرض النبي صلى الله عليه وسلم لدعوته على أهل الطائف وعدد من القبائل، ولم ييأس النبي صلى الله عليه وسلم من المحاولة، حتى شرّف الله الأوس والخزرج بالإيمان واحتضان الدعوة الإسلامية لتكون المدينة منارة للهدى ومنطلقاً لنشر الإسلام في العديد من المناطق، وفتح مكة والعديد من المدن الكبيرة!!
هذا المشهد باختصار لابد وأن يكون منهجاً نقتفي أثره أفراداً وجماعات، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوة نتأسى به في شؤون حياتنا، قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم والآخر وذكر الله كثيراً} [الأحزاب:21]. فمنهج رفض الخنوع والضعف على المستوى الشخصي و الجماعي هو منهج إسلامي، والقبول بالواقع وتعليق الأمور على المشيئة الإلهية دون عمل وسعي للتغيير هو نقيض لهذا المنهج الرباني. يقول الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
كثير من الناس لا يجرؤون على اتخاذ قرارات حاسمة على المستوى الفردي، ويشكون من قلة ذات اليد، أو سوء تعامل من هذا، أو ظلم من ذاك، ويضطرون لأن يضغطوا على أنفسهم عقوداً عديدة في سبيل العيش الذليل، وتوكيل الأمور إلى الله لعله يغيّرها إلى الأفضل، دون سعي للتغيير، بل مع خوف من التفكير به على الأقل، مؤثرين حالة العبودية والتذلل على العزة والرفعة والتقدم، ثم يرحلون وقد ورّثوا ثقافة الخنوع والاستسلام لمن بعدهم، ليرددوا المقولة السيئة الشائعة عند الكثير من الناس (امشِ الحيط الحيط)!!
أما على المستوى الجماعي، فليس اتخاذ أسلم الحلول وتجنب المواجهة والصدام هو أقرب الحلول وأفضلها دائماً ، ولا يعتبر الشجب المستمر وتعليق الأمور على اختلاف الظالمين وترنح الاستبداد أو الانسحاب من المشهد هو الحل الأفضل، بل نحتاج إلى الموازنة بين المكتسبات الدعوية وإمكانية الإصلاح وتطبيق الرؤى والبرامج، وهو ما يحتاج إلى دراسة من قبل المختصين -ليس الشرعيين فحسب- خصوصاً عندما تنعدم الرؤية المستقبلية ويصبح وجودنا لا أثر له سوى تكرار الصبر على الظلم والاضطهاد.
وهنا لا أدعوا إلى التهوّر في التصرف، والتخبط في اتخاذ القرار للتغيير، لكننا نحتاج أحياناً إلى المغامرة في بعض القرارات بعد دراستها دراسة وافية، وانعدام الحلول الأخرى، فلا يعني أنني أريد التغيير أنني سأنجح في النهاية ، لكننا نحتاج إلى دراسة الإمكانيات والفرص والتحديات التي ستواجهنا قبل الخوض في هذا الأمر، وإن لم ننجح به فلا يعني هذا نهاية الأمر، وإنما فرصة أخرى للاستفادة منها لتحقيق التغيير المنشود.