{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات:10]، آية عظيمة كريمة لا تحتاج لِتُكتب بماء الذهب لبيان قدسيتها وعظمتها؛ إذ يكفي أنها كلام الله العزيز مسطرة في معجزة الإسلام الخالدة القرآن الكريم، آية تتجاوز كل الحدود على اختلاف الجنسيات والألسن والفروقات لتقرر حقيقة لا لَبْس فيها لتربط المؤمنين بميثاق غليظ يتمثل بالأخوة في الدين وهي مدار العلاقات أياً كانت، فهل هناك ما هو أعظم من ذلك!
آية عظيمة كلما تلوتها استحضرت الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار، إذ صهرتهم في بوتقتها فأصبحوا بفضلها كما الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، تقاسموا اللقمة والشِربة والبيوت والأموال وكل ما يخطر على قلب بشر، هذه الآية التي بات الكثير منا يقرأ حروفها دون أن تتجاوز ترقوته غير متأمل بما ترمي إليه أو حتى بما ترتب عليها من آثار في نشر هذا الدين وترسيخ جذوره وانتشاره في أنحاء المعمورة.
الأخوة التي إن تلاشت معانيها من بيننا كأفراد ومجتمعات سادت بيننا قوانين الغاب وتجردنا من إنسانيتنا وكشّرنا عن أنيابنا ومخالبنا فيأكل قويّنا ضعيفنا ولا نرقب في بعضنا البعض إلّاً ولا ذمة، والمتأمل فيما يحدث بيننا من قطع صلات القربى وأواصر المودة والرحمة وانتشار الضغائن والتناحر والتفرق والتشرذم يُدرك أنّ كل هذا ما كان له أن يكون إلا عندما انفصمنا من عُرى الأخوة التي ألّف الله عز وجل بها بيننا ، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]، تأمل دقة المعنى وجمال التعبير، فهذه الأخوة كانت من نِعَم الله على هذه الأمة، ومما ورد في تفسير هذه الآية الكريم: "جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألَّف به بينكم. أما والله الذي لا إله إلا هو، إنّ الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذابٌ" (تفسير الطبري).
بل انظر إلى رحمة الإسلام ولطفه في هذه الآية الكريمة من سورة النور: { لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [آية61]، كيف يجعل الصديق وبيته في اعتبار بيوتنا وبيوت أقاربنا في الرحم، فقد جاء في تفسير (أو صديقكم): أي بيوت أصدقائكم وأصحابكم، فلا جناح عليكم في الأكل منها، ... وقال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه". (ابن كثير).
والناظر بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يجد الكثير من الأحاديث التي تحث على الأخوة بالله والاهتمام بها والتحذير من التدابر والتقاطع، والإمام الشافعي -رضي الله عنه- يقول: (الحر من راعى وِدَاد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة)، فكيف إذا كان هذا الأخ الذي ربط بينكما الشرع الحنيف برابطة الأخوة قد اخترته بنفسك وتشاركتما حلو الحياة ومُرها وتكشفت أسراركما ونقاط ضعفكما لبعضكما البعض وكان كل منكما مأوى ومستراحاً لأخيه يقيل عثرته ويجبر كسره ويُربت على كتفه بل ربما يؤثره على نفسه ولو كان به خصاصة.
وبعد هذه العجالة من التجول في مكانة الإخوة والصحبة في الله إلا أنك تجد الخلافات الطاغية على مجتمعاتنا والبغضاء والشحناء المنتشرة بيننا لِتُحوّل أخوة الأمس منا إلى ألد الأعداء، فيصبح الواحد منا غريباً عن أخيه الذي كان بالأمس مستظلاً بظله، نزيلاً في بيته، مشاركاً له في طعامه، فيلتقيان فيعرض كل منهما عن الآخر ولا كأن أدنى رابطة كانت تربط بينهما، فيقف الواحد منا مشدوهاً متعجباً متسائلاً عن السبب في قطع العلاقات والصلات بين المسلمين سواء كانت صلات رحم أو أخوة في الله، وترجع هذه الخلافات والقطيعة لعدة أسباب تستند في مدارها إلى:
أولاً: ضعف وازع التقوى وخشية الله في نفوسنا واعتلال سريرتنا وذلك ينتج عنه الغيرة والحسد، وهذا يكون علاجه بالاستعانة بالله وتدبر أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة؛ حتى تُسلموا، ولا تُسلموا؛ حتى تحابّوا، وأفشوا السّلام؛ تحابّوا، وإيّاكم والبُغضة! فإنّها هي الحالقة، لا أقول لكم: تحلق الشّعر، لكن تحلق الدّين" (البخاري، الأدب المفرد).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" (صحيح البخاري).
فربما يتغير بعضنا نفسيا تجاه أخيه لنعمة أصابته كمنصب أو وظيفة وما شابه ذلك، فيحسده عليها ليتحول هذا الشعور النفسي إلى سلوك عملي يترجم في الإعراض عن الأخ وهجره ومقاطعته.
ويُعالج الدخيل على نفسه من هذه الأمراض كالحقد والحسد بالتوبة والإنابة إلى الله لأنها لا تستقيم مع الإيمان في قلب المؤمن، ويتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(رواه البخاري)، فيذهب عنه الغل والحسد والغيرة بعد ترويض النفس على هذه المعاني الإيمانية الجليلة، وأن يعيد بناء صلته على الإخاء الذي هو فردوس الله في أرضه لما يترتب عليها من درجات عند الله وثواب عظيم.
ثانياً: اختلاف الطباع، التي قد تعمل على اتساع الفجوة بين المتآخين في الله، ويكون علاج هذا في إدراك سنة الله في خلقه فيركز كل منا على نقاط التآلف والتشابه ويبتعد عن مكامن الاختلاف التي قد تؤدي إلى القطيعة والتدابر، فليس المطلوب في العلاقات أن يكون كل واحد منا نسخة عن أخيه بل ربما كان اختلافنا يؤدي إلى التكامل إن أحسنا التصرف والتعامل معه.
ثالثا: سوء الفهم، ومن أكثر أسباب الخلاف هو الناتج عن سوء الفهم الذي يقع بين الناس، وعلاج ذلك يتم بالمكاشفة والمصارحة والاستفسار عن ما يرمي إليه ويقصده الطرف الآخر، وأن يُحسن كل منا الظنّ بأخيه المسلم، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12].
ثم يتهم كل واحد منا نفسه قبل أن يُلقي بالتهم على غيره، ويتفكر أنّ ما وقع بينه وبين أخيه ربما لذنب هو ارتكبه أو حق لأخيه عليه قصر في أدائه، فلا يقلل أحدنا من ذنوبه فربما أفسدت علينا حياتنا وآخرتنا وتأمل قول نبيك الأكرم الذي لا ينطق عن الهوى، فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما تواد اثنان في الله جل وعز أو في الإسلام فيفرق بينهما أول ذنب يحدثه أحدهما" (البخاري، الأدب المفرد).
وخلاصة مما سبق يتأمل المرء قيمة الأخوة في الله من حيث هي نعمة أكرمنا الله بها ومنّ بها علينا، وبالشكر تدوم نِعَم الله علينا، ويتفكر في جزاء من يكفر هذه النعمة وما يترتب على الإخلال في حقوقها وما يتبع قطيعتها من جزاء، ويتدبر بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من عاقبة التدابر والتنازع، فعن أبي أيوب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" (رواه البخاري)، ويقول صلى الله عليه وسلم يقول: "من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه" (رواه الحاكم في المستدرك).
وتأمل تحفيز النبي صلى الله عليه وسلم للسبق للأفضلية في بذل المودة لأخيك فقد روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما تحاب اثنان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه" (رواه ابن حبان في صحيحه).
اللهم لا تجعل في قلوبنا غلّاً للذين آمنوا واجعلنا رحماء فيما بيننا ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا لحبك.