وقفات نفسية في قصة نوح -سورة هود

الرئيسية » بأقلامكم » وقفات نفسية في قصة نوح -سورة هود
quran

لقد كان نوح عليه السلام أول رسول أرسل إلى قوم كافرين، لينذرهم برسالة التوحيد، ولقد كان قومه يعبدون الأصنام كما كان كفار قريش، وكأن من أغراض مثل هذا القصص في القرآن أن يكون إنذارا لمشركي العرب كي يتركوا ما هم عليه من الشرك ويستجيبوا لدعوة التوحيد حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب الأقوام الكافرة السابقة من الهلاك والعذاب، قال تعالى في مستهل قصة نوح مع قومه في سورة هود: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيم".

إن هذه أول وقفة نفسية يحسّها القارئ للقصص القرآني، وهو شعور الداعية بالوحدة العقائدية والاتحاد الشعوري مع كل الأنبياء والدعاة الذين ساروا على طريق الدعوة من قبل، هذا الشعور الذي يمتد في الزمان والمكان ليزيد السائرين على هذا الطريق ثقة بموعود الله في نصرة الحق وهلاك الظالمين، ولعلك تجد ذلك واضحا في قول نوح لقومه في سياق السورة حين سخروا منه وهو يصنع الفلك التي ستكون وسيلة النجاة له وللمؤمنين في حين يهلك قومه بالطوفان: "فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ".

ولعلّ هذا ما جعل القصص القرآني لا سيّما في العهد المكي ينزل تسلية للنبي ومن آمن معه من المستضعفين، وكأنهم حين يتأملون أحداث هذا القصص، و ما يكون فيها من صبر الأنبياء على أذى أقوامهم ثم قضاء الله بإهلاك هؤلاء الأقوام ونصرة أنبيائه وأوليائه، يرون أنفسهم فيها ويستشرفون العاقبة الحميدة لهم في نهاية المطاف، عندها يزدادون ثباتاً على الحق، وصبراً على الابتلاء، ويقيناً بنصر الله.

وفي قوله تعالى: "إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ"، وقفة نفسية أخرى على ما ينبغي أن يشعر به الداعية إلى الله من إشفاق على المدعوين ورغبة صادقة في رجاء الهداية والخير لهم.
و تعرض الآيات في سورة هود نفسية قوم نوح في موقفهم من دعوته، وعدم استجابتهم له، وذلك بطرق عديدة ومختلفة:
فمنها الاستكبار، والترفع عن أن يكونوا مع من آمن بنوح من المستضعفين والأراذل، وكأنهم يريدون أن يكون لهم دينٌ آخر يحفظ لهم مناصبهم وجاههم بين الناس: "فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ".

ومنها العناد، دون حجة أو دليل: "قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" لقد بلغ العناد والكبر بهم أن يستعجلوا العذاب الذي ينذرهم به نبيّهم نوح عليه السلام، وهكذا النفس إذا غمرها شعور الكبر والتغطرس لم تنفعها موعظة ولم تكترث بعاقبة.

ومنها الاتهام الباطل للنبي بالكذب، وأن ما جاء به افتراء منه على الله، وهكذا النفس المشبعة بالعناد تقذف الاتهامات جزافا على صاحب الدعوة لا لأن دعوته ليست حقا بل معاندة واستكباراً: "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ".

وفي حوار نوح عليه السلام مع قومه تتجلى مشاعر نفسية عند الداعية، ولعل من أهمها الشعور بالثقة بما يحمل من الحق وأن تكون نفسه مفعمة بالجدّ والمثابرة من أجل تبليغه، وذلك ينبثق من الإيمان الكامل بالفكرة التي يدعو إليها وحرصه الشديد على إقامة كل الحجج والبراهين الدالة عليها، ويتّضح ذلك في ردود نوح المفحمة لقومه في جداله معهم، فهو بداية يبيّن لهم أن دعوته هي الحق وأن الرحمة والخير هو في استجابتهم لها: "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ".

ثم هو لا يبتغي أموالهم ولا أجرا منهم على دعوته: "وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّه".

وفي ردّه على دعواهم بطرد المستضعفين يقول لهم: "وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ".

ثم يخبرهم بأنه مجرد رسول منذر وليس الأمر مردوداً إليه، وإنما الأمر لله من قبل ومن بعد: "وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ".
وفي استعجالهم للعذاب يردّ عليهم: "قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ".
وفي ردّه على ادعائهم بأنه كاذب ومفتر يقول لهم: "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ".

وهكذا ينبغي أن يكون الداعية سريع البديهة حاضر الجواب، يتحلى بالعلم والحلم، ويقارع الحجة بالحجة لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

ومن الوقفات النفسية في القصة أيضا، الشعور بالأمل وعدم اليأس و إن كثر المعرضون وزاد كيدهم ومكرهم، فإنما على الداعية البلاغ وعليهم الخسارة والخذلان قال تعالى: "وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ".

ولعل من أقوى الوقفات النفسية في سياق القصة، ما امتلأت به نفس نوح عليه السلام من مشاعر أبويّة فيّاضة بالحنان والإشفاق على ولده الذي اختار أن يكون في صف الكافرين الهالكين، فها هو يناديه ويمدّ له يده ليركب معه في سفينة النجاة، فيقضي الله قضاءه الذي يتجاوز مشاعر الأبوة إلى إقرار الحق والعدل في تقرير مصير الكافرين، وأن رابطة الدم والنسب لا تشفع لصاحبها أمام رابطة الدين فيقول تعالى: "وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ".

إنها تربية ايمانية نفسية، أن تتخلّص هذه النفس من حظوظها ومشاعرها الفطرية العفوية، كمشاعر الأبوة والبنوّة وأن تقدّم عليها مشاعر الانتماء والولاء للدين والعقيدة: "وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ".

ويختتم مشهد النجاة برسو السفينة وهبوط نوح ومن آمن معه بسلام لتمتلئ النفوس فرحاً بتحقق وعد الله بالتمكين، وتشفيّا بهلاك الظالمين: "قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ".

وتتحقق العظة والعبرة في أمم أهلكت، في حين تبقى سنّة الله قائمة في أمم أخرى، بإمهالهم إلى حين، حتى إذا جاء أمر الله نزل بهم العذاب الأليم، إما عاجلا في الدنيا وإما آجلا في الآخرة، لتترسّخ هذه الحقيقة في نفوس المؤمنين بالشعور بالثقة المطلقة في إقامة العدل الإلهي، فإن لم يشهدوا هلاك الظالمين في الدنيا فسيشهدون عذابهم في الآخرة.

وما أجمل ختام القصة في سورة هود الذي جاء ليؤكد هذه الحقيقة في قوله تعالى: "تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ".

هذا والله أعلم

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …