من بين المفاهيم القرآنية التي ربما ليست سائدةً لدى عموم المسلمين في عصرنا الحالي، مفهوم الإنسان الربَّاني، بالرغم من أنها من المراتب العليا التي يجب أن يسعى إليها المسلم في حياته، من خلال تمتين عقيدته القلبية وعمله بتعاليم دينه في كل سلوكه وحركته.
ومن بين معالم التشويش التي لَحِقَت بهذا المفهوم، أن كثيرين يعتقدون أن الربَّانية مرتبة من مراتب الصوفية –وهم بالفعل يُولونه اهتمامًا كبيرًا– ومصطلحاتهم مثل التخلِّي والتحلِّي، وبالتالي فقد ابتعد الكثيرون أو تحرَّجوا منه، باعتبار ما قال علماء ثقات أنه من البِدَعِ والشِّركِيَّات، مع كونه لدى بعض غُلاة الصوفية يعني الذوبان في الذات الإلهية.
إلا أن المصطلح مختلف تمامًا عن هذه الأمور، كما ورد في القرآن الكريم، وفي التفاسير المختلفة للآيات الكريمات التي ورد فيها باشتقاقاته المختلفة، وعددها أربع آيات، منها اثنتان في سُورَة "آل عمران"، واثنتان في سُورَة "المائدة".
الآية الأولى، في سُورَة "آلِ عِمران"، يقول فيها الله تعالى: "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79)"، وفي الثانية يقول عزَّ وجلَّ: "وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)".
أما آيَتَا "المائدة"، فالأولى يقول الله سبحانه فيها: "إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)"، والثانية، ورد المصطلح في قوله تبارك وتعالى: "لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (63)".
وفي المواضع الأربع، ارتبط الموضوع ببني إسرائيل ومخالفاتهم لما أنزله اللهُ تعالى من تعاليم وأحكام، وادعائهم بالباطل على اللهِ تقدست أسماؤه وصفاته، وتعالى عمَّا يصفون، وعلى أنبيائه ومرسليه.
وفي الحقيقة، بالرغم من اتصال هذه المرتبة من الإيمان بالكثير من الأمور التي يجب على الإنسان المسلم الوفاء بها، إلا أن فهمها ليس بالصعوبة أو التعقيد الذي قد يتصوره البعض؛ حيث إنها مرتبطة بالكثير من الأمور التأسيسية في عقيدة المسلم وعمله، والتي من المفترض أنْ يُلِمَّ بها من الأصل كجزءٍ من معرفته بدينه.
ومن خلال ما كتبه القرطبي وابن كثير وآخرون في تفاسيرهم لهذه الآيات، فإن الرَّبَّاني هو الشخص الذي يصل إلى أعلى درجات اليقين في عقيدته، وبالتالي أعلى درجات التسليم والإذعان لتعاليم الإله والربِّ الذي يؤمن به، ويلتزم في قوله وعمله بكل ما أنزله الخالق عزَّ وجلَّ من تعاليم وشرائع .
وفي تفسير القرطبي لآية "آل عمران" رقم (79)؛ فإن "الربَّانيون"، ومفردهم "ربَّاني"، هم المنسوبون إلى الرَّبِّ، والرَّبَّاني، هو الذي يربِّي الناس بصغار العِلم قبل كباره، وكأنه يقتدي بالرَّبِّ سبحانه في تيسير الأمور.
ومما رُوي في معنى ذلك، عن عبد الله بن عباس (رضي اللهُ عنهما)، فقد قال البعض، كان في الأصل "رِبِّي"، وأُدخِلَت الألف والنون للمبالغة; كما يقال لعظيم اللحية: "لِحيَاني"، ولعظيم "الجُمَّة": "جُمَّاني"، ولغليظ "الرقبة": "رقباني".
إلا أن هناك من يرون أن الربانيين، هم "أرباب العلم"، ومفرد الكلمة "رَبَّان"، ويشير القرطبي إلى أن هؤلاء، ومنهم المبرد، استندوا في ذلك إلى مقولة: "ربه يربه فهو ربان؛ إذا دبره وأصلحه; فمعناه على هذا يدبرون أمور الناس ويصلحونها، والألف والنون للمبالغة كما يُقال: "ريَّان" و"عطشان"، ثم ضُمت إليها ياء النسبة كما قيل: "لحياني" و"رقباني"، وما نحا نحو ذلك من اشتقاقات.
وهكذا؛ فإنه أيًّا كانت رؤية الأولين والمتقدمين لمفهوم "ربَّاني"؛ فإنه يدور حول معنىً شديد الأهمية في ديننا، ولدى الإنسانية بشكل عام، وهو "العلم"، الذي يعني في الدِّين الفارق حرفيًّا بين الهداية والجهالة، والذي يعني في عصرنا الراهن، الفارق بين النهضة والتقدم، وبين التخلف.
إلا أن هذا المصطلح أوسع نطاقًا من التسليم والإذعان لله تعالى، والخوف منه، والعلم بالشريعة وأحكامها، والعمل بها، وإلا ما سبق اللهُ تعالى به المصطلح الذي يشير إلى رجال الدِّين اليهود، "الأَحْبَارُ" في الآية (63) من سُورَة "المائدة"؛ فرَجُل أو عالِم الدِّين، من المفترض أن يكون هو الأكثر فهمًا وعلمًا وإتقانًا لأحكام الشريعة، وما تقتضيه من المؤمنين بها.
فالإنسان الرَّبَّاني، هو ذلك الذي يقوده ما أنعم اللهُ تعالى به عليه من علمٍ وإيمانٍ إلى حمل أمانة التبليغ، والقيام بدور أصيل وفعَّال في إصلاح حال الناس، وهدايتهم.
الإنسان الرَّبَّاني، هو ذلك الذي يقوده ما أنعم اللهُ تعالى به عليه من علمٍ وإيمانٍ إلى حمل أمانة التبليغ، والقيام بدور أصيل وفعَّال في إصلاح حال الناس، وهدايتهم
ويشمل ذلك التضحية والفداء مهما كان الثمن في مواضع الجهاد في سبيل الله، كما جاء في وصفِ اللهِ عزَّ وجلَّ لمَن جاهدوا مع أنبيائهم في سبيل الله،، والصبر والمثابرة على ذلك، مهما أصابهم خلال ذلك، كما أوضحت آية "آل عمران" التي يقول فيها اللهُ تعالى: "وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)".
ولعل من أهم ما وجدناه في تفاسير هذه الآيات من أدوارٍ ينبغي على الإنسان المسلم الساعي إلى أن يبلغ مرتبة الربَّانيين، هي أن يأخذ بمهمة ثقيلة ربما في ذات وطأة جهاد السيف، بالذات في أيامنا هذه، وهي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومما وجدناه في ذلك، تفسير القرطبي لآية المائدة الثالثة والستين؛ "لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ".
فيقول إن فالآية فيها توبيخ للعلماء في ترك مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما نجده في أكثر من موضع آخر من القرآن الكريم.
ومما رواه سفيان بن عُيَيْنَة في هذا الأمر، أن الله تعالى قد أمر مَلَكًا بأن يخسف بقرية، فقال المَلَكُ: "يا رب فيها فلان العابد"، فأوحى الله تعالى إليه : "أن به فابدأ فإنه لم يتمعَّر وجهه في ساعة قط".
وفي سنن الترمذي، فإن إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يدَيْه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده. اللهم إنا نسألك العفو والعافية.