مقدمة: تعيش مجتمعات العالم اليوم واقعا غاية في التعقيد بالنظر إلى ما فرضه الانـتـقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي من جهة، و التطور العلمي و التكنولوجي من جهة أخرى، الأمر الذي انعكس سلبا أحيانا على الحياة الاجتماعية، و أدى إلى تراجع في أدوار مؤسسات الضبط الاجتماعي على وجه العموم، و مما زاد الوضع تعقيدا تكريسُ حقوق الإنسان الفرد في ظل هيمنة الأنظمة السياسية و الاقـتصادية اللبرالية على نحو وسّع من نطاق الحياة الشخصية و ضيّق من نطاق الحياة العامة، و جعل من بعض السلوكيات، التي كانت تعد إلى عهد قريب انحرافات بل و جرائم، سلوكيات مقبولة و مشروعة بل و قانونية مثل تعاطي بعض المخدرات الخفيفة، و الزواج المثلي، والإنجاب خارج إطار الزواج، و الإجهاض ... إلخ.
و من بين الانعكاسات السلبـية الناجمة عن تراجع أدوار مؤسسات الضبط الاجتماعي غير الرسمية مثل الأسرة و العائلة، و المسجد و الكنيسة، و وسائل الإعلام، و الجمعيات... إلخ من جهة، وضعف مردود مؤسسات الضبط الاجتماعي الرسمية مثل الشرطة، و القضاء، و المؤسسات الإصلاحية و العقابـية من جهة أخرى، زيادةُ حجم الجرائم و الانحرافات في المجتمعات المعاصرة، بما فيها المجتمعات العربية و منها المجتمع الجزائري.
ففي الجزائر يمكن القول أن ظواهر الجريمة و الانحراف تشهد تزايدا في الحجم و تـنوعا في الأنماط، وتعددا في الفئات المنخرطة في النشاط الإجرامي و المنحرف أو الواقعة ضحية له مثل الأطفال، و الأحداث، و النساء، و المسنين، إذ ما زالت تُطلعنا الصحف الوطنية كل يوم عن جرائم وانحرافات لم يكن يعرفها المجتمع الجزائري قبل عشرية أو عشريتين، الأمر الذي ينذر بالخطر.
و أمام هذا الوضع لا بد من تفعيل أساليب الضبط الاجتماعي لمواجهة ظواهر الجريمة والانحراف مثل أسلوب الوقاية، و الردع، و المنع، و المكافحة و الإصلاح و العقاب، و تـعـزيــز دور مؤسسات الضبط الاجتماعي الرسمية على الخصوص مثل الشرطة، و القضاء، و المؤسسات الإصلاحية و العقابـية لأجل تدارك الأمر قبل فوات الأوان.
و في هذا الإطار يندرج موضوع هذه المقالة على البحث في الضبط الاجتماعي لمواجهة الجريمة و الانحراف، و لاسيما الرسمي منه و صوره أو أسالـيـبه الأساسية و هي: الوقاية، الردع، المنع، المكافحة و الإصلاح و العقاب. و سيقع التعرض للموضوع -بـبعض الإيجاز- من خلال محورين اثنين:
المحور الأول: الجريمة والانحراف و الضبط الاجتماعي
غني عن البيان أن الجريمة و الانحراف ظواهر اجتماعية إنسانية لا يخلو منها أي مجتمع، مهما بلغت درجة تطوره و مستوى الضبط الاجتماعي فيه، غير أن هناك باحثين يفرقون بين الجريمة والانحراف في المجتمعات البدائية أو التقليدية التي تـتميز بـتـوطُـدِ العلاقات الاجتماعية و قوة الـتـضامن الاجتماعي، و بالنتيجة يقل فيها الإجرام و الانحراف، و المجتمعات الحديثة التي تـتميز بسطحية العلاقات و ضعف التضامن الاجتماعي، و بالتالي يكثر فيها العنف.
و يقصد بالضبط الاجتماعي بالمعنى الواسع وضع المعايـير الاجتماعية و القانونية المؤسسة على جملة من القيم المشتركة و فرض احترامها. و بهذا المعنى تلعب الـتـنشئة الاجتماعية للأفراد من طرف بعض المؤسسات الاجتماعية مثل الأسرة، و المدرسة، و العدالة دورا هاما.
أما الضبط الاجتماعي بالمعنى الضيق فيقصد به جملة الإجراءات التي ترمي إلى فرض احترام القواعد و المعاقبة على الانحراف، فيقتصر على جملة العقوبات التي يواجهها مقترفو السلوكيات المنحرفة.
و في هـذا الصدد يقع التمييز عند علماء الاجتماع عموما، و علماء اجتماع الجريمة والانحراف خصوصا، بين نوعين من الضبط الاجتماعي: الضبط الاجتماعي الرسمي و الضبط الاجتماعي غير الرسمي.
أما الضـبط الاجتماعي الرسمي فهو الذي تستخدمه جهات رسمية متخصصة، كالمدرسة، و الشرطة، و العدالة (القضاء و المؤسسات الإصلاحية و العقابية)، التي بإمكانها أن توقيع و تنفيذ عـقوبات مؤسسة .
و أما الضبط الاجتماعي غير الرسمي فهو الذي يمارس بوضوح أو بصورة صريحة من خلال تفاعلات الحياة اليومية، و لاسيما في إطار العلاقات داخل المجموعات الأولية كالأسرة، و جماعة الأقران، كما يمارس بصورة ضمنية حسب الحالات من خلال النظرات، و الابتسامات، و إشارات الموافـقة أو الرفض، و الهـــدايــا والتشجيعات، و السخرية، و الهجر و الـعـزل...إلخ.
بــيد أن التمييز بين هذين النوعين من الضبط ليس تمييزا صارما، إذ كثيرا ما يقع اللجوء إلى كليهما من طرف المؤسسة الاجتماعية الواحدة كالأسرة، و المدرسة، و الشرطة، و العدالة...إلخ.
المحور الثاني: صور أو أساليب الضبط الاجتماعي الرسمي للجريمة و الانحراف
يأخـذ الضبط الاجتماعي الرسمي للجريمة و الانحراف عـدة صور أو أساليب هي: الوقـاية، والردع، و المنع، و المكافحة، و الإصلاح .
أولا: الـوقـايــة
تقوم صورة الوقاية على التصدي لمختلف الظروف والعوامل التي من شأنها أن تؤدي إلى الجريمة و الانحراف قبل وقـوعهـما، وهنا يتم التعامل مع الأسوياء و لاسيما الأحداث.
في هـذا الصـدد يقـترح بعض الباحثـين اتـخاذ الإجـراءات التالية من أجل الوقاية :
1- الحيلولة دون قيام الشخصية الإجرامية، بالتركيز على تـنشئة الأفراد على أسس سليمة، و توفير أسباب العيش الكريم لهم.
2- الحيلولة دون تكوّن البيئة الإجرامية، بالقضاء على أسباب التفكك الأسري، والفـقـر، و الجهل، و البطالة، و منع ظهور الأحياء الفاسدة التي تصبح مصدرا لتـنشئة أفراد منحرفين.
3- إجراء الدراسات و البحوث العلمية للتعامل مع الظواهـر الانحرافية و الإجرامية، و وضع الأسس للقضاء عليها في مهدها حتى لا تستـشري في المجتمع.
4- التوعية والإرشاد لأفراد المجتمع لإشعارهم بخطورة الجريمة و انعكاساتها السيئة على المجتمع، وتوعيـتهم بدورهم الهام فـي التعاون مع الأجهـزة الأمنـية لمحاربة الجـريمة و المجرمين.
ثانيا: الــردع
يقوم مفعول الردع على جملة عناصر أهمها :
- يقين توقيع العقوبات بحيث يتأكد الجميع بأنه لن يفلت مرتكبو الفعل الإجرامي أو المنحرف من العقاب.
- سرعة توقيع العقوبة بعد ارتكاب الفعل الإجرامي أو المنحرف.
- شدة العقوبات التي يواجهها مرتكبو الفعل الإجرامي أو المنحرف.
كما يجدر الذكر أن الردع الذي يستـند إلى مبادئ السياسة الجزائية التي تــتبناها الدولة، و التي تشمل تضمين التشريعات الجزائية ليس عقوبات فحسب بل و تدابير احترازية أيضا من شأنها ردع ذوي الميول الإجرامية و دفعهم إلى التفكير مليا قبل الإقدام على الأفعال الإجرامية، كما تشمل توفير ما يكفي من المؤسسات الإصلاحية و العقابية لاستقبال المجرمين و المنحرفين، بحيث يقع تجسيد سياسة عدم الإفلات من الجزاء سواء كان عقوبات أو تدابير احترازية.
ثالثا: الـمـنع
المنع لغة هو الحيلولة بين الشخص و بين شيء يريده، و يعني الإيقاف، و الامتناع هو التوقف و الكف عن إتيان فعل ما.
و في مجال الجريمة و الانحراف فإن المنع يشمل الوسائل و الإجراءات، الإدارية أو القانونية، التي تحول دون وقوع الجريمة و الانحراف أو استمرار وقوعهما.
ولما كانت الجريمة نتيجة توفر عناصر ما يعرف بثالوث الجريمة و هي: المجرم ذو النية أو الإرادة الإجرامية، و الهدف أو الضحية المناسبة، و الحراسة الغائبة أو الضعيفة، فإن جهود أسلوب المنع تقوم على جعل اقـتراف السلوك الإجرامي أو الجانح أمرا صعبا، سواء بتـشديد الحراسة من طرف قـوات الأمن الرسمية أو من طرف المؤسسات الأمنية الخاصة، أو بـيقـظة الجمهور، أو المواطنـين فـي المنـازل والمـتاجر، و كـذا الأماكـن العـمومـية، فضلا عن استخدام وسائل المراقبة الإلكترونية، بغاية تفـويت الفـرصة على ذوي الميول و النيات الإجرامية أو المنحرفة لـتــنـفـيذ السلوك الإجرامي أو المنحرف.
وبعبارة أخرى فإن صورة المنع تـقوم على التركيز "على استخدام الأدوات المانعة للجريمة مثـل الكاميرات، و الأقـفال الحديدية، و المراقبة الإلكترونية [...] فبواسطة هذه الأدوات يمكن حرمان الجاني من فرص ارتكاب الجريمة".
رابعا: المكـافـحــة
تـقـوم صورة المكافحة على التصدي لمختلف صور الإجرام و الجنوح بالعقوبات و كذا التدابير الاحترازية أو الأمنية، المتخذة ضد مجرمين و جانحين فعلا، ارتكبوا أفعالا مخالفة للقانون.
كما يعتمد أسلوب المكافحة على سياسات جزائية تـفعّل الثالوث التقليدي (الشرطة والقضاء والمؤسسات الإصلاحية والعقابـيـة).
إن اللجوء إلى مكافحة الجريمة يكون عند "فشل الجهود في الوقاية والمنع، و ذلك عند دخول الجريمة طور التـنفيذ، فعندها تـتوجه الجهود الأمنية لوقف استمرار ارتكاب الجريمة أو الحد من أضرارها، و يعتمد ذلك على سرعة الإبلاغ عنها، و سرعة رجال الأمن إلى نجدة المستغيث [...] واختيار أسلوب الـتدخل للحد من الأضرار أو إخفاء معالم الجريمة بغية التخلص من الملاحقة والعقاب".
خامسا: الإصلاح والـعـقـاب
تقوم صورة الإصلاح و العقاب، أساسا على محاولة إعادة المجرمين و الجانحين أو المنحرفين إلى كَــنَـفِ الحياة الاجتماعية السوية بعد أن ينالوا جزاءهم بقضاء العقوبة أو استكمال تنفيذ التدبــيـر الاحترازي. إن الإصلاح أو العقاب يسـتهدف "تغيير سلوك الفرد أثناء فترة العقوبة، و إصلاح بــيئــته الاجتماعية قبل أن يعود إليها، و منحه الفرصة للتوبة و استــئـناف حياته الاجتماعية بشكل عادي، وعدم تذكيره بماضيه الانحرافي أو استخدامه ضده".
و ما يقال عن العقوبات يمكن أن يقال عن التدابير الاحترازية، فهي الأخرى أداة حماية المجتمع من المجرمين الخطرين، إذ من أوكد شروط اتخاذ التدابير الاحترازية من طرف القضاء، اتصاف المجرمين بالخطورة الإجرامية، التي هي صفة لصيقة بشخص المجرم من الناحية النفسية، قبل أن ينظر إليها من الناحية الاجتماعية على أنها تمثل تهديدا كبيرا لأمن المجتمع و سلامته، كما أن بعض التدابير الاحترازية، كإلزام مدمن المخدرات بالعلاج، من شأنها أن تصلح حاله فلا يعرض أمن المجتمع للخطر.
هذا و يترجم التـدخل العقـابي و الإصلاحي في جملة نشاطات منها، تدريب المساجين على مهن أو حرف، أو ترقـية مستواهم التعلـيمي، أو إشراكـهم في أعمال الصالح العام، أو إخضاعهم للعلاج النفسي و العضوي ... إلخ.
و في الأخير تـجدر الإشـارة إلى أن بعض الدراسات الحـديثة، و لاسيما بعد ظهور "علم الضحـايا"، و انـتشار ما يعرف بالدراسات الاستطلاعية أو المسحية على الضحايا، أصبحت معالجة آثار الجريمة تطال الضحايا، بحيث تـتخذ الجهات القضائية لصالحهم تدابــيــر تعويضية، كالمعالجة من صدمات الجريمة وآثارها النفسية و المعنوية على حياتهم الشخصية و الاجتماعية، بل أضحت منظمة الأمم المتحدة تــتجه في العشرية الأخيرة إلى التحسيس و العمل على تأسيس و تـنظيم ما يعرف بالعدالة التعويضية القائمة على إصلاح الأضرار الناجمة عن الجريمة و الـعـدالة الـتـصالحـيـة القائمة على محاولة التصالح بين مختلف الأطراف المتضررة من الجريمة.
إن الصور أو الأساليب الخمسة المذكورة للضبط الاجتماعي الرسمي و هي الوقاية، و الردع، والمنع، و المكافحة و العلاج، مكـملة لبعضها البعض، لكن ينبغي "التركيز على الوقاية كخط دفاع أول ضد الجريمة، لأن من خلال النجاح في سياسات الوقاية تـقل الحاجة للردع و المنع و المكافحة و[العقاب و الإصلاح]".
خاتمة: في الختام يمكن القول أن عمليات الضبط الاجتماعي التي تقوم بها المؤسسات الاجتماعية الرسمية مهمة للغاية لفرض احترام القيم و المعايـير المرعية في المجتمع، و التي من خلالها يضمن استقرار و أمن الأفراد و المؤسسات. و لعله من الممكن اخـتـصار الأساليب الخمسة في الضبط الاجتماعي الرسمي للجريمة و الجنوح و الانحراف المعالجة في هذه المداخلة في ثلاث أساليب هي:
الوقاية و هي تسبق القيام بأي فعل إجرامي أو جانح أو منحرف، بل تسبق حصول أي ميل أو نية في القـيام بمثل ذلك الفعل.
و المنع و هو يسبق القيام بأي فعل إجرامي أو جانح أو منحرف، رغم توفـر الميل الإجرامي و النية لتجسيده في أفعال لكنها تُحبط في آخر لحظة.
و أما المكافحة فهي لاحقة على الفعل الإجرامي أو الجانح فـتعتبر صورة من صور التصدي له.