تأملات في قصة موسى عليه السلام- سورة الشعراء

الرئيسية » بأقلامكم » تأملات في قصة موسى عليه السلام- سورة الشعراء
man-reading-quran-praying-3

إن الحق واضح جلي ولا ينكر أنواره الساطعة إلا من كان أعمى البصيرة، يقول تعالى في مستهل قصة موسى وفرعون في أوائل سورة الشعراء: “طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ".

إن لحظة المواجهة مع هؤلاء الذين ينكرون الحق، تبدأ حين يصطفي الله أنبياءه لرسالته: “وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ ".

عندها يحس الداعية بمسئولية الدعوة والبلاغ، ويعلم أنه سيواجه الكثير من المعوقات والصعاب داخلية أو خارجية، خارجية ممثلة في تكذيب وإعراض من يدعوهم كقوله تعالى: “قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ".

وداخلية تتعلق بالقدرات والكفاءات كقوله تعالى: “وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي ".

ولذا وجب على الداعية في كل حين أن يسأل ربّه أن يعينه وييسر له الأسباب التي تكون سببا في نجاح دعوته، فإن المهام جسام ولا يقوى عليها بمفرده، ولذا طلب موسى من ربه أن يجعل أخاه هارون رسولا معه إلى فرعون: “ فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ".

ومما يعين الداعية في دعوته استشعاره دوما بمعية الله وأنه تبارك وتعالى لا يخذل أولياءه، وأن كل ما سيواجهه من الأذى والابتلاء هو بعلمه وتحت علمه وبصره، ولكنه يمهل حينا حتى تخلُص النيات وتُصقل الكفاءات وفي نهاية الأمر تكون العاقبة للمؤمنين: “قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ" ألا ما أجمل هذا الشعور وكم يملأ النفس طمأنينة ويقينا!

إن مما يقدّمه الطغاة والمستكبرون في الأرض من خدمة لهذا الدين وهم لا يشعرون، أنهم يملؤون حياة الناس ظلما وشقاء، حتى يتمنى الناس زوالهم وهلاكهم ويرون في الإسلام بديلا مخلّصا لهم مما يكابدونه تحت سلطانهم من الظلم والطغيان: “وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ "
وعندما يعرض الداعية دعوته على الناس فإنه تتفاوت عقولهم وتختلف مداركهم وعندها فإن عليه أن يبرهن على صدق دعوته وقوة حجته بما يملك من أدوات شتى وطرق مختلفة مادية عملية كانت أو فكرية علمية، وقد جمع موسى بين هذين النوعين، فمن الأساليب المادية معجزة العصا واليد لموسى عليه السلام حين قال لفرعون وملئه: “قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ".

ولكن فرعون رغم رؤيته لهذه الآية المبهرة إلا أنه أراد أن يحول الصراع ليكون بين موسى عليه السلام وبين فئة متنفذّة في بلاده وهم السحرة فيكفونه مواجهته: “قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ".

وإن مما يكون له أعظم الأثر في نجاح الدعوات مخاطبة الجماهير، وجمع الحشود لتبصر نور الحق وتهتدي إليه وهذا ما كان في مواجهة السحرة لموسى أمام الجماهير الغفيرة من الناس: “فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ".

وعندما يواجه أهل الباطل دعوة الحق، فهم إنما يفعلون ذلك لمكاسب دنيوية ومصالح مادية ككسب مال أو جاه فليست القضية عندهم معركة فكرية أو صراع مبادئ على الأغلب: “فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ".

وتبدأ المواجهة وينتصر موسى على السحرة: “قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ".

لقد حدثت المفاجأة أمام فرعون وأمام الناس، فقد آمن السحرة بعد أن هزمهم موسى عليه السلام "فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ* رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ".

ويأتي التهديد والوعيد من فرعون، وهكذا الطغاة دوما يمارسون الاستعباد والاستبداد على الناس، حتى أنه يرى أن لا حق لهم في التفكير واتخاذ القرار دون الرجوع إليه حتى ولو كان ذلك في قضايا الاعتقاد، فكيف يؤمنون برب موسى دون أن يأذن لهم أو يوافق على ذلك: “قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ".

ولكن الايمان يصنع الرجال، فأولئك السحرة الذين كانوا بالأمس القريب يدينون لفرعون بالولاء ولا يخرجون عن أمره، ويرون أن غاية المنى في القرب منه والتزّلف له، قد أبصروا الحقيقة فلامس الايمان بشاشة قلوبهم، ولم يعودوا يكترثون لفرعون وما سيصنع بهم، بل صاروا يرجون ما عند الله من مغفرة الزلات ونيل القربات: "قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ".

ومن وسائل الدعوة وأساليبها ما يكون علمية ومعنوية تخاطب العقول والأفهام، ولعل هذا هو المعوّل عليه في وقتنا فإن زمن المعجزات قد انتهي، وهذا ما كان في بداية خطاب موسى لفرعون وملئه كما ذكرته سورة الشعراء، فهو بداية يهيئ عقولهم لاستقبال الفكرة الجديدة، وهو الايمان بالله والتحوّل عن ربوبية فرعون: “ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ".

فينكر فرعون هذا ويسأل عن الرب الجديد الذي جاء به موسى: “قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ "
وعندها يذكر موسى الأدلة العقلية على ربوبية الله: “قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ" وكأن يخاطب الملأ من قوم فرعون أن فرعون هذا الذي تعبدونه لا يملك أن يدبّر أمرا أو يغيّر شيئا في ملكوت السماوات والأرض.

ثم يقول موسى لهم: إن كان فرعون هو الرب فمن كان رب الأولين من قبلكم: “قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ".

فلما عجز فرعون عن الردّ، أصبح يلقي التهم جزافا على موسى، وهكذا المعرضون حين لا يستطيعون أن يشوّهوا الحق، فإنهم يشوّهون حملته: “قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ "
ولكن موسى يستمر في مخاطبة عقولهم مرة أخرى: "قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ".

فلما رأى فرعون أن موسى يسوق الحجج والأدلة تباعا على دعوته الجديدة، لجأ إلى التهديد والوعيد، وهكذا الطغاة حين يعجزون عن معارضة الحق فإنهم يتحولون من قوة المنطق إلى منطق القوة فقال: “قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ".

وتأمّل قول فرعون "مِنَ الْمَسْجُونِينَ" فالمسجونون كثر ولا يكترث فرعون أن يصبح موسى واحدا منهم، إنه منطق الاستعلاء والاستكبار الذي لا يأبه إلى الحقيقة وصدق الفكرة، ولا يبالي بكل من يقف في طريقه أن ينكّل به أو يقوم بتصفيته.

إن هذه الآيات الأوائل في مطلع سورة الشعراء ترسم منهجا واضحا في المنطق والأسلوب الذي على الدعاة أن يبلّغوا به دعوة الله، واضعين في اعتبارهم كل ما يمكن أن يواجههم من صلف الطغاة وجبروتهم، مستعينين بالله على مواصلة الطريق، يعرضون دعوتهم على الناس يخاطبون من خلالها قلوبهم وعقولهم بكل ما لديهم من الحجة والبرهان، وحينها سيبدّد نور الحق ظلمات الباطل وستكشف استقامة المستقيم انحراف المنحرف حتى يأذن الله لأوليائه ودعاته بالظفر والتمكين.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …