إن البعض يجانبهم الصواب عندما يصفون مرحلة التقدم في السن بـ (مرحلة خريف العمر)، فهذه العبارة قاسية وصادمة وتستدعي إلى الذهن مشهد الجفاف وتساقط أوراق الأشجار اليابسة! وإن هذا الوصف المُشبَّع بالقسوة والجفاء والذي يخلو من الرحمة يُوحي بقرب النهاية، مع أن رحلة كبار السِّن لم تصل إلى المحطة الأخيرة بعد، ولا يعلم مُنتهاها إلا الخالق سبحانه وتعالى، لذلك من حق كبار السن الاستمرار في الرحلة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ومن حقهم أن نهيء لهم كل سبل الدعم النفسي والمعنوي التي تجعلهم يشعرون بأنهم يعيشون في (مرحلة سن الحكمة) بكل ما فيها من نضج وخبرات وتجارب.
إن الشاهد يقول أنه عندما يتقدم الأرامل المُسنون (رجال ونساء) في السن ويستقل عنهم الأبناء وينشغلون بحياتهم الجديدة وأسرهم الناشئة تكون الحياة بالنسبة لهؤلاء الأرامل والمسنين مُملة ورتيبة بل وكئيبة، خاصة في ظل طبيعة المرحلة السِّنية ومتطلباتها التي لا يدركها أحد ولا يهتم بها أحد!!
وفي بعض الحالات التي يعيش فيها المُسن مع أولاده يجد نفسه وحيداً مُنعزلاً لانشغال الجميع عنه وعدم اهتمامهم بطبيعة مرحلته السنية ومتطلباتها، مما يزيد الأمور تأزماً بالنسبة للمُسن.
إن المحيطين بالمُسن يعتبرون أنه قد وصل لمرحلة لا يصلح معها إلا ملازمة سجادة الصلاة والمسبحة استعدادًا لموعد المغادرة الذي أوشك أن يحل، وأنه من السَّفه أن يشغلوا أنفسهم بغير ذلك!!
إن كل المحيطين بالمسنين ينسون أو يتجاهلون أن المُسن في حاجة لمعاملة خاصة نفسياً وصحياً ، لأن الإنسان إذا امتد به العمر تعتريه بعض التصرفات التي قد لا ترضي الأبناء ولا زوجاتهم، ومن هنا يأتي الهجر والإهمال مما يزيد مُعاناة هؤلاء المُسنين، وكثيراً ما نقرأ أن أحدهم أو إحداهن مات في مكانه وتحللت جثته ولم يعرف بموته إلا الجيران عندما وجدوا رائحة غريبة تخرج من المكان، أو أن أحدهم أو إحداهن أقدم على الانتحار لأن الموت والحياة أصبحا عنده سواء.أولاً: فوائد زواج المُسنين
إن كلاً من الرجل الأرمل المُسن والمرأة الأرملة المُسنة بينهما عامل مشترك وهو الرغبة في الاطمئنان والشعور بالأمان والحاجة إلى دفء شريك يعيش مع أحدهما تحت سقف واحد، فالرجل بصفة عامة اعتاد على وجود زوجة بجواره تبادله أطراف الحديث، يبثها ذكرياته وأفكاره وأفراحه وأتراحه، والمرأة لا تقل عنه في هذا الجانب.
إن هذا يجعل زواج المسنين هو أحد الحلول بل أول الحلول التي يجب أن يُنظر إليها بعين الاعتبار لعلاج مشاكلهم وما يعتريهم من تقلبات لا يفهمها إلا شريك في نفس العمر.
في ظل كل ما سبق أصبحت فكرة زواج كبار السن من الأهمية بمكان لما لها من فوائد كثيرة بالنسبة للمُسن وبالنسبة لكل المحيطين به، ومن بين هذه الفوائد:-.
1- زواج كبار السن يحافظ على الصحة النفسية لديهم ويقلل من الإصابة بالاكتئاب بسبب وجود الونس وعدم الشعور بالوحدة.
2- ويحافظ على الصحة بصفة عامة، لأنهم سوف يصبحوا أكثر التزاماً فى تناول الغذاء والدواء لوجود من يساعدهم ويذكرهم بالالتزام بذلك.
3- ويساعد على تقليل فرص الإصابة بالزهايمر وأمراض القلب، كما يقلل من فرص الإصابة بأمراض التغذية وفقدان الشهية.
4- ويجعلهم أكثر إقبالاً على الحياة بدلاً من العزلة والانطواء والشعور بالوحدة.
5- ويحافظ على وحدة الأسرة وتماسكها فلا الآباء يشتكون من إهمال الأبناء لهم، ولا الأبناء يشعرون بتأنيب الضمير بسبب تقصيرهم في حق آبائهم.
كل ذلك بشرط وجود التكافؤ بين الزوجين الذي يجعل زواج كبار السن تكاملاً وليس شذوذاً عن أعراف وتقاليد المجتمع، وكل حالة تقدر بقدرها دون فرض ولا تعميم.
ثانياً: أسباب رفض الأبناء لفكرة زواج الآباء
إن فكرة زواج الآباء بعد وصولهم لمرحلة متقدمة من العمر تثير غضب الأبناء، مما يجعلهم يرفضون هذه الفكرة تماماً، بل ويعتبرون الحديث فيها من (الخرف الذهني)، وذلك لعدة أسباب:-
1- اعتقاد الأبناء أن الزواج غايته إشباع الغريزة والإنجاب وتكوين أسرة جديدة، وأن من بلغ هذا السن لا حاجة له في شيء من ذلك، مما يجعل الأبناء يعتقدون أن مجرد تفكير الآباء في الزواج وهم في هذه المرحلة السنية حماقة من الحماقات، وينسى هؤلاء شيئاً من الأهمية بمكان وهو الحاجة الفطرية لدى كبار السن إلى رفيق يؤنس القلب ويشعر معه بالمودة والرحمة ويطرد عنه الوحشة والشعور بالوحدة.
2- خوف الأبناء من اهتزاز صورتهم أمام أزواجهم وأبنائهم وأمام المجتمع، فهذا ينسيهم مصلحة الأب / الأم لظنهم أن الآباء ما جعلوا إلا ليُعطوا وأن دورهم قد انتهى عند هذا الحد.
3- الخوف على الميراث. وهذا ما يشغل الأبناء دون الالتفات لحال المسن الذي يعاني الأمرين بعد أن بلغ أرذل العمر، وهناك من يقومون بالحجر على آبائهم بسبب ذلك أو يرغمونهم على التنازل عن ثروتهم قبل الشروع في الزواج!!
4- الحكم المُسبق على التجربة بالفشل. والواقع يقول بأنه لا يمكن الحكم على هذا النوع من الزواج مُسبقاً بالنجاح أو بالفشل، فالحالات تختلف والتجارب كذلك تختلف باختلاف الدافع وباختلاف الطباع... الخ، ولا يمكن التنبؤ بالنتيجة قبل حدوث الزواج بالفعل.
5- التعلل بعدم الوفاء للزواج السابق، وهذه عِلة واهية تتنافي مع الواقع والفهم الصحيح للدين. فلو كان الوفاء للشريك السابق يُقاس بهذا المعنى ما تزوج النبي ﷺ بعد وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها !!
ثالثاً: نظرة الشرع إلى العزوبة
إن ما يقوله الشرع في حث الشباب على الزواج والنهي عن العزوبة والتبتل يمكن تكراره في زواج المسنين، خاصة الجانب المعنوي الذي يهدف إلى تحقيق السكينة والمودة والرحمة، ويهدف إلى الوقاية من الأمراض النفسية والجسدية، وكل ذلك يهذب الجانب الروحي من خلال ما يحققه من صفاء ذهني واستقرر نفسي.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام، وأعلم أني أموت في آخرها يوماً، وليَ طَوْل النكاح فيهن [أي: القدرة عليه]، لتزوجت مخافة الفتنة" (المُغنِي لابن قدامة).
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "ليست العزوبة من الإسلام في شيء ومن دعاك إلى غير الزواج دعاك إلى غير الإسلام" (المغني لابن قدامة).
وفي "إتحاف السادة المتقين" لأبي الفيض مرتضى الزبيدي: "وروي عن الإمام أحمد أنه تزوج في اليوم الثاني لوفاة أم ولده عبد الله، وقال: "أكره أن أبيت عزباً" اهـ.
وجاء في (إحياء علوم الدين): "ومات امرأتان لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في الطاعون وكان هو أيضاً مطعوناً فقال زوجوني فإني أكره أن ألقى الله عزباً" اهـ.
وفي "روضة المحبين" لابن القيم: "ويعقوب في حزنه قد تزوج وولد له" اهـ.
إن الإسلام قد حكم بكراهية العزوبة لما لها من أضرار وخيمة تؤدي إلى الاضطراب الذهني والنفسي والسلوكي الناتج عن كبت الرغبات والمشاعر، وتعطيل الاحتياجات الإنسانية والفطرية.
أخيراً أقول
إن القاعدة الفقهية تقول "الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم"، والموضوع الذي نحن بصدده لم يحرمه الشرع ولم ينه عنه، فالواجب علينا ألا نجعل الأعراف المجتمعية وما توارثه الناس من عادات وتقاليد قيداً على ما أباحه الشرع.
وأقول: مُخطئ من يعتقد أن الحب مُقتصر على الشباب، فحب العجائز أنقى وأطهر وأعمق .