بين تمنّي نعيم الدنيا والغفلة عن تبعاتها

الرئيسية » بأقلامكم » بين تمنّي نعيم الدنيا والغفلة عن تبعاتها
Muslim_prayer__islam_810_500_75_s_c1

أصحاب الجفون المخلوعة، والقلوب المفتونة التي تَعلَق بها الفتن كما يعلق الشوك في الصوف إذا رأوا صاحب سُلطة قالوا يا ليتنا هو، وربّما سعى البعض منهم لخلعه طمعا في سلطانه، ولو كان زعيما تعيسا يرعى قبيلة على تخوم غابات الأمازون.. حسبهم في ذلك جهلهم بثقل المسؤولية وخطورتها إذ لا يطلبها عاقلٌ أبدا، وإنّما حَكَم العُقلاءُ من قبلُ من بعد ما منّ الله عليهم وفتح لهم من باب حكمته ورشده فسيقت لهم الولاية صاغرة من بعد أن دفعوها واستصغروها.

وكذلك الزاهد عن الشيء ينالُهُ بإذن ربّه فيكون طيّعا بين يديه ليّنا واللاهث على الأشياء لا ينال الواحد منها إلا صَلدًا، ما انساقوا لها ولا مالت لها أنفسهم فترى الزاهد منهم إذا اشتهر عدله وكُلّف بقضاء أو إمارة بكى وشكى وارتعد قلبه فسأل وليّ أمره أن يكفيه شرّها فإذا ألحّ عليه وأقام عليه الحجّة بوجوب الاستجابة لنداء الجماعة وتكليف الله وَجَدتَه مهموما مغموما ما تعثّرت بغلةٌ على ضفاف نهر دجلة إلا سعى إليها يُقبّل حافريها إن نجت أو يكفّر عن ذنبه بالتعويض لصاحبها إن هلكت ولنا في صحابة الرسول صل الله عليه وسلم أسوة حسنة، ذلكم عُمر تسأله عاتكة بن زيد في فجر أوّل يوم من خلافته: قد رأيتُ تقلّبك الليلة في مضجعك كأنك بتّ على جمر، أهكذا يستقبل الخليفة أول أيام ولايته؟
فيجيبها:
يا عاتكة إنّي خشيتُ على نفسي يوما تتقلّب فيه القلوب و الأبصار وإنّ الرجل يخاف أن يُسأل على أهل بيته فكيف إذا صار المسلمون كلهم عياله؟

لا يعرف المتكالبون على السلطة والحاسدون لأصحابها أن صاحب السلطة يهلك عنه سُلطانه بعد سنوات قصيرة وإن طالت ويُسأل فوق الأرض، فإن لم يكن فوقها فتحتها، ماذا فعلتَ مع الفاسدين؟ وأين كنت حينما بكى الجائعون؟ وفيما قضّيت نهار جبروتك وليل شموعك، فيقول هلك عنّي سلطانيه.. لا أدري .. ها .. ها

كما منهم إذا لم يجد في مرمى عينيه صاحب سُلطة تمنّى لو كان مكان صاحب المال، أو مكان صاحب السيارة، متكئا فيها سادلا يده على بابها يُحيّي الأتراب ويعاكس الكواعب، ويصرف نظره عن خصومه الألداء.. انظروا إليّ وحدّقوا فيّ ولن أنظر لكم، لديّ سيارة ها.. ها!

ولا يعلمون أنّ نعيمها من نعيم الدنيا وشُغلُها من جنودها، وأنّ من صَرَفه الله إليها فقد ابتلاهُ ابتلاءً عظيما، ذلك أن متاع الآخرة خيرٌ وأبقى، "وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتاعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَٱلْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ".

ويُروى عن ابراهيم بن الأدهم قوُلُه لرجل أعطاه عشرة آلاف درهم: تريد أن تمحو اسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم؟ لا أفعل ذلك، وردّها إليه، فأين جوعى القلوب اليوم منه كطائر السيفنَّة لا يتركُ شجرةً حطّ عليها إلاّ نهش من ثمارها وأغصانها بعينيه وقلبه ومنقاره وأين الذين يبيعون دنياهم من أجل ليلة في فندق فاخر..

فإذا استعصى الأمر على بعضهم، من هؤلاء وهؤلاء، رأوا لاعب كرة مشهور على جسده الوشوم، وفي أنفه قرط لامع، وبين يديه حِيزت الدنيا وفُتّحت له أبواب كل شيء قالوا، يا ليتنا كنا مكانه، نمرح في الأرض كيفما نشاء وننهل من نعيمها لا رقيب علينا من أهل الإسلام ولا حسيب، ولا يعرف هؤلاء أن عثرة في الطريق، تكسر مليمترا في الظهر فتقطع وصال النخاع للنخاع، كافيةٌ أن يصير صاحب الرجل الذهبية مُقعدا، ثم حزينا، ثم باهتا ثم منطفئا، تتولى عنه الأولى وتحل الآخرة محلّها غصبا فيحسب أن لم يلبث ساعة حيّا ويغدو نعيم الدنيا في عينيه سرابا.. يا ليتني كنت ترابا..

الناس في زمن المساحيق والتيك توك والترند لا يرون من الأشياء إلا أوّلها، قشرتها الظاهرة، التي لا محالة زائلة، ولا يرون حقيقتها إذ عُمّيت عليهم لاتباعهم الهوى وانصياعهم عبيدا لأنفسهم عبيدا للدنيا.. يدرسون عن القناعة ولا يكتفون، فيقال في جملة ما يقال في مجتمعنا العربي، "العبد ما يملاله عينيه كان التراب"، ويدرسون عن الصدق فينافقون، فيُقال "إن كان لك عند الكلب حاجة فقل للكلب يا سيدي"، ويدرسون عن التوكل فيقولون -مادمنا بصدد الحديث عن الكلاب-، "الكلب الذي يجاوزك البحر اصبر على رائحته"، وهي أمثال شعبية تجري على كل لسان فتحرّف التربية السليمة وتجعل الصغار يشبّون على مساوئ الأخلاق رغم تواجدهم في بلدان عربية مسلمة تتفق كل مصادر التشريع فيها على مكارم الأخلاق واعتبار الحياة الدنيا حياة فانيةً عدوّا للإنسان في سعيه لجزاء الآخرة وفي الحديث: "إنّها لسريعة التوي وشيكةُ الإنقلاب فاُحذروا حلاوةَ رضاعها لمرارة فطامها واهجروا لذيذ عاجلها لكربة آجلها ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها" على رسولنا أفضل الصلاة والسلام.

إن هذه اللهفة في تمني نِعم الدنيا، والانبهار بأهلها، والسعي بكل الطرق لنيل حظهم منها عائد بالأساس إلى تغرّب أهلها عن آخرتهم وذوبانهم في عاجلتهم، وإدمانهم على بهرجها تذوّقا حسيّا وشُرودا.. وإلاّ فأنّى لمن عرف دوام المسك خيانته مع الريحان، سرعان ما يذهب ماؤه ويذوي فيهوي بلا ريح ولا روح..

وما أبرّئ نفسي إنّ النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، ولكنّني أوصيني وإيّاكم بزيارة المقابر، ولتنظروا إلى مستقبلكم لا محالة آت وإن صحّت أجسادكم ومكثت فيها أرواحكم.. رحم الله نفيسة العلم، حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما زارت مصر ومكثت فيها فاتّخذ الناس من بيتها قبلة لهم وأغدقوا عليها بالهدايا فخافت فتنتهم لها فحفرت قبرها بيديها في جوار الدار واِستلقت فيه تُأدّب نفسها وتُجاهدها، فلما سُئلت عن صنيعها قالت: أذكّر نفيسة العلم بمآلها.

فاللهَ اللهَ في مستقبلكم يا أولي الألباب..

قال أبو سليمان الداراني لأحمد بن أبي الحواري: "يا أحمد، جوعٌ قليل وعُريٌ قليل وذُلٌ قليل وقد اِنفضّت عنك أيام الدنيا"

فلا تتركوا قليل الدنيا يحرمكم من كثير الآخرة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …