منذ بداية سورة إبراهيم والآيات توضح أنّ الناس أمام الحق فريقان، فريق آمن وهم أهل النور، وفريق كفر وهم أهل الظلمات، قال تعالى: "الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ "
وتصف السورة أهل الظلمات بثلاث صفات، في قوله تعالى: "الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخرة وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ " .
فهم يحبون الدنيا ويتعلقون بها ويغفلون عن الآخرة، ولكي لا تنقطع آمالهم ولا تتبدّد مصالحهم في هذه الدنيا، يسعون في كل سبيل معوجة ليصدّوا عن سبيل الله، فتراهم يتخبطون على غير هدى ويمضون في ضلالهم البعيد.
والظلم ظلمات، والظالمون هم صنف من أهل الظلمات.. وتضرب السورة مثلا للظالمين بل لأشدهم ظلما وطغيانا وهو فرعون، الذي ادعى أنه الرب الأعلى، فأخذ يقتل الرجال ويستحيي النساء ويستعبد الناس.
وكم هي نعمة عظيمة من الله تعالى على عباده المؤمنين أن يُريهم مصارع الظالمين، ويمنّ عليهم بالنصر والتمكين: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ".
فهو سبحانه وتعالى لا يدع الأمور تمضي عبثا، بلا رقيب ولا حسيب، بل قضى بعدله وحكمته أن يجازي كل فريق بعمله، فيزيد الشاكرين ويهلك الكافرين: " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ "
وهولا ينفعه شكر الشاكرين ولا يضرّه كفر الكافرين فهو الغني عن العالمين: " إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ".
وهولا يعجزه شيء ولا رادّ لأمره: " إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ"
وقد كتب سبحانه وتعالى النتيجة الفاصلة للصراع بين الكفر والايمان، فيثبت المؤمنين ويضل الظالمين: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" .
ولذلك تعيب السورة على من كفر بنعمة الله ولم يشكرها: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ" .
جاء في تفسير الطبري عن هذه الآية: (أنعم الله على قريش بمحمد فأخرجه منهم، وابتعثه فيهم رسولا، رحمة لهم، ونعمة منه عليهم فكفروا به وكذّبوه ).
وهذا وصْف كل من رفض شرع الله وهديه واستبدل به شرعا ومنهجا غيره.
ألا ما أجحد ذلك الإنسان حين يغدق الله عليه بنعمه التي لا تُعدّ ولا تُحصى ثم هو يكفرها ولا يشكره عليها، بل يستعين بها على معصيته: "وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ".
كما تصف السورة عاقبة الظالمين في مشهد مهيب من مشاهد العذاب في النار، فيقول تعالى: "وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ".
فانظر كيف أغرى هؤلاء الظالمين جبروتهم وعنادهم حتى كان مصيرهم إلى هذا العذاب الشديد الغليظ، الذي أحاط بهم من كل جانب حتى يتمنوا كل لحظة لو يموتوا فيستريحون، ولكنهم لا يموتون، ولا هم ينجون.
وتأتي خواتيم سورة إبراهيم، لترسم صورة مفزعة لمشهد هؤلاء الظالمين حين يُعرضون على ربّ العالمين، فهو تبارك وتعالى ليس بغافل عنهم، وأنه إن أمهلهم فلن يهملهم، بل يؤخرهم إلى ميعاد يوم مشهود حيث يبلغ بهم الخوف والفزع كل مبلغ، فتراهم قد شخصت أبصارهم، وغُلّت أيديهم وجمدت أعناقهم، وأفئدتهم خالية مما أصابهم من الهم والغم والفزع والقلق: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ".
والجزاء من جنس العمل، فكم كان هؤلاء الظالمون سبباً في خوف الناس وفزعهم، وكم ملأوا حياتهم رعبا وهما وقلقا بسبب ظلمهم وجبروتهم، ولكنهم اليوم لا يعرفون أمنا، ولا يملكون حراكا.
وتصبح أمنية هؤلاء الظالمين في ذلك اليوم أن يعودوا إلى الدنيا لتكون لهم الفرصة كي يؤمنوا ويستجيبوا، وهم الذين كانوا من قبل يظنون أنفسهم في هذه الدنيا مخلّدين، ولهذا اليوم غير مبعوثين: "وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ".
ثم تذكر الآيات العبرة المستفادة من مصير الظالمين، والاعتبار بعاقبتهم وسوء خاتمتهم، فإن من وراءهم سكنوا في مساكنهم، ولا يزالون يرون آثارهم التي هي شاهدة على هلاكهم وانتقام الله منهم، فأولى لهم أن يتعظوا بهم، كي لا يصير حالهم كحالهم: " وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ".
وتؤكد الآيات مرة أخرى أن الله تعالى لن يغفل عن الظالمين، وأنه لا يغيب عنه كيدهم ومكرهم مهما عظم وبلغ مبلغ الجبال، فإن انتقامه واقع ووعده نافذ: " وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ".
إن هؤلاء الظالمين الذين بالغوا في إجرامهم، سيكونون أذلة صاغرين في موقف الحشر العظيم حيث يبرزون جميعا، ليقفوا للحساب أمام الواحد القهار، وحينها يأتون في خزي وهوان وقد قيّدت أيديهم وأرجلهم إلى الأعناق، قد لبسوا ثيابا من قطران، لتلفح وجوههم النار: "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ " .
وعندها تكون ساعة التشفّي والانتقام للمظلومين، حين يكون الحساب عادلا وسريعا: "لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ".
ألا ما أسوا مصير هؤلاء الأشقياء الظالمين، وما أشد عذابهم في نار الجحيم، وما أبلغها من موعظة وبيان لأولى الألباب من الناس: "هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ".
هذا والله أعلم