لماذا نصر على الكتابة رغم تراجع الإقبال على القراءة؟!

الرئيسية » بصائر الفكر » لماذا نصر على الكتابة رغم تراجع الإقبال على القراءة؟!
writing- protest

يقول المفكر والأديب عباس محمود العقاد: "القراءة وحدها هي التي تُعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة؛ لأنها تزيد هذه الحياة عُمقًا، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب".

كما يقول أيضاً: "ليس هناك كتاباً أقرأه ولا أستفيد منه شيئًا جديدًا. فحتى الكتاب التافه أستفيد من قراءته أني تعلمت شيئًا جديدًا هو ما هي التفاهة؟ وكيف يكتب الكُتَّاب التافهون؟ وفيم يفكرون؟ (من كتاب: مراجعات في الآداب والفنون).

لقد كانت القراءة حتى سنوات قريبة هي أبرز الهوايات لدى كثير من الناس، يدَّخرون ليشتروا الكتب والروايات والقصص، ويقضون الساعات الطوال ينهلون من عبق كتاب أو يهيمون في أحداث رواية أو يغوصون في تفاصيل قصة، للحد الذي يُنسِيهم الوقت ويُنسِيهم عدد الساعات التي قضوها في القراءة.

ومع اختلاف طبيعة العصر، وتعدد مصادر المعرفة ومناهلها، ومع زيادة أعباء الحياة واختلاف الأولويات لدى الفرد والمجتمع، ومع قلة الإبداع الفكري، وسطحية النظام التعليمي الذي يعتمد على التلقين، بدأ الناس رويداً رويداً يعزفون عن القراءة وبالتالي يتراجعون عن شراء الكتب فانعكس ذلك على عدد الكتب والمطبوعات، وبدأت بعض الإصدارات الحديثة تبدوا محدودة المحتوى سطحية الأفكار ضئيلة القيمة، أشبه ما تكون بالوجبات السريعة التي تغازل العيون وتتلاعب بالأنوف ويسيل من أجلها اللعاب، إلا أن الأطباء يُحذِّرون من تناولها!!

نتيجة لكل ما سبق نجد أن هناك سؤالاً يطرح نفسه، وهو:-

لماذا يُصر الكُتَّاب على الكتابة بما فيها من جهد بدني وذهني رغم تراجع الإقبال على ما يكتبون، ورغم أن العائد الذي يُحصِّلونه من إصداراتهم لا يتناسب مع ما يبذلونه من جهد بدني وذهني ولا مع ما يضحون به من وقت زمني؟

إن الإجابة على هذا السؤال سيتم تناولها في عدة نقاط:

1- إن للكتابة مُتعة لا يعرفها ولا يُدركها إلا من جرَّبها، ولذلك فإن المتعة التي يحصلها الكاتب تنسيه كل المبررات التي تجعله يعزف عن الكتابة، فالذي ذاق طعم مُتعة الكتابة تجد لسان حاله يقول "مع المَحبرة حتى المَقبرة".

2- إن الكتابة بالنسبة للكاتب تشكل -مع قرينتها القراءة-، مثل عمليتى الشهيق والزفير، لا حياة له بدونهما.

3- إن الكاتب الحقيقي مثل بائع الجواهر الذي لا يفكر أبداً في تصفية تجارته بالرغم أنه لا يبيع في اليوم إلا مرة أو مرتين أو قد لا يبيع بالمرة .

4- والكاتب الحقيقي يدرك جيداً أن الناس يتهافتون على حفل لمُطرب مغمور وينفضون عن محاضرة لداعية مشهور.

في خمسينيات القرن الماضي سأل صحفي الأديب «ﻋﺒﺎﺱ محمود ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ» من منكما أكثر شهرة، أنت أم محمود ﺷﻜﻮﻛﻮ؟! (شكوكو هذا مونولوجيست هزلي شهير).
فردّ عليه «العقاد» باﺳﺘﻐﺮﺍﺏ: من ﺷﻜﻮﻛﻮ هذا؟!
عندما وصل هذا الخبر ﻟﺸﻜﻮﻛﻮ قال للصحفي: «قل لصاحبك العقاد ﻳﻨﺰﻝ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ، ويقف على أحد الأرصفة وسأقف أنا على الرﺻﻴﻒ المُقابل، ونرى من منا أكثر شعبية!
هنا ردّ العقاد: "قولوا ﻟﺸﻜﻮﻛﻮ ﻳﻨﺰﻝ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻭﻳﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺭﺻﻴﻒ ويجعل «ﺭاﻗﺻﺔ» ﺗﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﺻﻴﻒ الثاﻧﻲ ويرى حول من سيلتف الناس!".

إن مقولة العقاد الأخيرة رغم قسوتها إلا أنها لخصت واقعًا مريرًا مفاده أنه كلما تعمق الإنسان في الابتذال ازدادت جماهيريته وشهرته، فميل الناس إلى السذاجة والسطحية ليس بجديد.

كلما تعمق الإنسان في الابتذال ازدادت جماهيريته وشهرته، فميل الناس إلى السذاجة والسطحية ليس بجديد

5- إن القرآن الكريم حين تحدث عن الكثرة والقلة قال: (أَكثَرَهُم لاَ يَعلَمُونَ"، "وَأَكثَرُهُم لاَ يَعقِلُونَ"، "وَأَكثَرُهُم لِلحَقِّ كَارِهُونَ"، "وَأَكثَرُهُم كَاذِبُونَ"، "وَلَـكِنَّ أَكثَرَهُم يَجهَلُون"... الخ).
• وعندما تحدث القرآن الكريم عن القلة، قال: (وَقَلِيلٌ مِّن عِبَادِيَ الشَّكُورُ)، (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ)، (قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ).

مما سبق نفهم أن العبرة ليست بكثرة العدد ولكن بنوعية المعدود  لذلك قال تعالى: (إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال 65].

5- إن الكاتب يقوم بتدقيق ما يكتب ويستوثق من صحة كل معلومة ينقلها للقرَّاء ويقرأ عشرات أضعاف ما يكتب، وهذا في حد ذاته يجعله المستفيد الأول ويجعل منه شخصية ذات عقل موسوعي ولسان فصيح وحجة دامغة ورأي سديد. إن كل ذلك له قيمة لا تضارعها قيمة، خاصة في زمن زاد فيه المتفلسفين والمتفيهقين، وكما قال الشاعر السوري "فاضل أصفر": (إذا ظهرَ الحمارُ بزيِّ خيلٍ تكشَّفَ أمرُهُ عندَ النّهيقِ).

6- والكاتب الحقيقي يستحضر نية

• أن تكون كتاباته منبراً يصل من خلاله للناس على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم.

• وأن تكون كتاباته سوطاً يجلد به ظهور أهل الباطل ويُفند باطلهم ويُعرِّي زيف ادعاءاتهم.

• وأن يقوم بنشر محتوى هادف يُطهِّر به ما يعيشه المجتمع من عفن وكدر.

• وأن يكتب ما يبث به الأمل في نفوس المكلومين، ويزيل به الألم عن قلوب المُتعبين، ويحث به على الصبر، ويغرس به التفاؤل، ويشيع به البسمة، ليقينه أن الأنفس متعبة والقلوب دامية، والفائز من يجعله الله سبباً في تخفيف كل ذلك حتى ولو كان هو أكثرهم ألماً.

• ويستحضر نية (علينا الأذان وعلى الله البلاغ) وكل صاحب رزق سيصله رزقه.

• ويستحضر نية ترك أثراً طيباً وعلماً يُنتفع به فيكون ما يكتبه وما ينشره صدقة جارية تنتفع بها الناس إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها.

8- الكاتب الحقيقي يدرك أن ما لا يقرؤه جيل قد يقرؤه جيل آخر، وما لا ينتفع الناس به في حياته قد ينتفع به غيرهم بعد مماته.

ألا ترون أن جملة واحدة يكتبها إنسان تتناقلها الأجيال لمئات بل آلاف السنين وتخلد بها ذكرى كاتبها!

إن كل ما سبق لا يعتبر مدعاة للاستسلام للأمر الواقع بل لابد من التفكير الجاد في مخرج من هذه الكبوة وخروج من هذه الأزمة لأنه لا سبيل إلى حفاظ الأمة على هويتها واسترجاع مجدها إلا بالقراءة العميقة الهادفة ، وهذا يتأتى بـ:-

1- تعليم النشء ملكة القراءة التي تجذبهم للكتاب ولا يرضون عنه بديلاً، مع توفير الكتب بمحتواها الهادف وإخراجها الجذاب وسعرها المناسب.

2- إطلاق مبادرات للقراءة في المدارس والجامعات على أن يكون لهذه المبادرات دعماً مناسباً وأن يكون لها وزنها النسبي في درجات المواد التي يدرسها الطلاب.

3- نشر فكرة الثقافة الموسوعية التي تشمل كل ما هو مُفيد وبنَّاء وهادف من الثقافات الإنسانية بما لا يتعارض مع قواعد الدين ومبادئه، ولا مع القيم والمبادئ والأعراف المجتمعية الصحيحة. وبالتالي فإن شمولية الثقافة لا تعني التنصل من الأصول ولا التهافت على ثقافة الغير وذلك رداً على من يخلطون بين شمولية العلم وبين شمولية الثقافة، فالعلم كوني ولكن الثقافة مجتمعية أصولية.

إن الثقافة الموسوعية لا تعني الارتجال ولا العشوائية لأن من يقطف من كل بستان زهرة دون معرفة فن تنسيقها تنقلب الزهور عليه نقمة ويصبح التخلي عنها أفضل من حملها.

إن الثقافة الموسوعية لا تعني الارتجال ولا العشوائية لأن من يقطف من كل بستان زهرة دون معرفة فن تنسيقها تنقلب الزهور عليه نقمة ويصبح التخلي عنها أفضل من حملها

4- توضيح أن الثقافة لا ترتبط بشخص دون آخر، ولا بمهنة دون أخرى، ولا بمجتمع دون آخر، ولا بمستوى تعليمي دون آخر، ولا بسن دون آخر. فالثقافة هي ذلك النهر المتدفق الذي ينهل منه الجميع وفق حاجتهم وبما يفي بمتطلباتهم .

أخيراً أقول:

إن إهمال القراءة يؤدي بالعقل إلى البلادة وبالتالي يكون صاحبه مطية سهلة لكل راكب، حيث تتقاذفه الآراء والأهواء فما يؤمن به اليوم يُنكره غداً، وما أنكره بالأمس يعتنقه ويدافع عنه اليوم.

إن العقل هو خط الدفاع الأول وحائط الصد المنيع الذي يقي صاحبه من التضليل والتغييب والأفكار الهدامة والانسياق وراء كل ناعق، وهذا كله لا يكون إلا بالقراءة العميقة الواعية الهادفة.

إن إهمال القراءة يؤدي بالعقل إلى البلادة وبالتالي يكون صاحبه مطية سهلة لكل راكب، حيث تتقاذفه الآراء والأهواء فما يؤمن به اليوم يُنكره غداً، وما أنكره بالأمس يعتنقه ويدافع عنه اليوم

وأقول:

إن القراءة تكسب صاحبها هيبة وإجلالاً وبهاء ...

• إن حدَّثك في أصول الدين هِبته وعظمت قدره لعذب حديثه وبلاغة منطقه ودقة فهمه.

• وإن حدَّثك في الشعر والأدب والبلاغة والتراث خلت كأنه وًلِد أديباً.

• وإن حدَّثك عن الحياة ودروبها ما ظننته إلا شيخاً طاعناً في السِّن قد عركته الحياة وعركها.

• وإن سكت عن الحديث علمك هيبة الوقار وجلال السكينة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …