نظرات في سورة الجمعة

الرئيسية » بأقلامكم » نظرات في سورة الجمعة
سورة-الجمعة-من-القرآن-

لقد ابتدأت السورة بالتنزيه والتعظيم لله، ودلّ على ذلك افتتاحها بتسبيح كل ما في السموات والأرض لله تعالى، قال -عزّوجل-: “يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" ولقد وصف الله نفسه في هذه الآية بأوصافه التي تستحق التقديس والتسبيح بحمده وهي:
" الملك": هو مالك السموات وَالْأَرْضِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا بِحُكْمِهِ.
" القدّوس": الْمُنَزَّهِ عَنِ النَّقَائِصِ، الْمَوْصُوفِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ.
" العزيز": الشديد في انتقامه من أعدائه.
" الحكيم": أي في تدبيره خلقه، وتصريفه إياهم فيما هو أعلم به من مصالحهم.

وسُمّيت السورة الكريمة بسورة الجمعة، ذلك اليوم العظيم الذي خصّ الله به أمة محمد –النبي الخاتم– من بين جميع الأمم، فقد كان السبت لليهود والأحد للنصارى، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَدِ، فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالأَحَدَ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلاَئِقِ".

إنها إشارة إلى تميّز هذه الأمة المسلمة برسالتها الخالدة، وأن سبيلها إلى العزة والتمكين في الأرض هو بتمسكها بوحي ربها، دون تبعيّة ليهود أو نصارى، فإن أمة محمد وإن كانوا الآخرين في الأمم في الدنيا الذين بُعث فيهم النبي إلا أنهم سيكونون الأولين مقاما وجزاء في الآخرة.

ولذلك تجد السورة تمنّ على المؤمنين ببعثة هذا النبي الكريم فيهم، فيقول تعالى: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ".

وتأمل كيف وصفت الآية الكريمة مقصد البعثة والرسالة بالتزكية والعلم، فأولا يتحقّق صلاح النفس بتزكيتها بالإيمان وترفـّعها عن الشرور والآثام الظاهرة والباطنة، ثم ثانيا صلاح المجتمع بالعلم والمعرفة الذي هو أساس كل نهضة وحضارة، ومن حاد عن هذا المقصد فلم يجمع بين الإيمان والعلم تاه عن الطريق القويم وسار في ضلال مبين، ومن وُفّق إليه فذلك من فضل الله كما قال تعالى: “ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ".

ولمّا أكرم الله هذه الأمة بهذا الدين، وميّزها عن غيرها، نهانا في هذه السورة أن نكون كأهل الكتاب الذين حرّفوا كتبهم وبدّلوها ولم يمتثلوا لما فيها، فصاروا كما الحمار يحمل الكتب النفيسة ثم لا يفقه منها شيئا فضلا عن أن يطبقها أو يعمل بها فبئس المثل مثلهم، وبئس الفعل فعلهم: “مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".

ثم تطرح الآيات منهجاً بليغا في إقامة الحجة على كل مُدّع، فهؤلاء اليهود الذين ادّعوا محبة الله لهم وأنهم أولياؤه، وأنّ لهم عنده خير الجزاء وحسن العاقبة، فإن كنتم صادقين في زعمكم هذا فتمنّوا الموت الذي سيكون أسرع طريق يوصلكم إلى ربّكم فتلقون عنده ما تدّعون: “قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ".

ذكر الطبري في تفسير هذه الآية (في قولكم، إنكم أولياء لله من دون الناس، فإن الله لا يعذّب أولياءه، بل يكرمهم وينعمهم، وإن كنتم محقين فيما تقولون فتمنوا الموت لتستريحوا من كرب الدنيا وهمومها وغمومها، وتصيروا إلى روح الجنان ونعيمها بالموت).

لكن ذلك لن يكون لأنهم كاذبون فيما يدعون ويفترون على الله في محبته لهم واتخاذهم أولياء دون سائر خلقه، وكيف يتمنون الموت ولقاء الله، وهم الذين كفروا بآيات الله فبدّلوها وحرّفوها، وسعوا في الأرض بالفساد والإفساد، إنهم في قرارة أنفسهم يعلمون ما ينتظرهم عند الله من الجزاء والحساب على كفرهم وظلمهم: “وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ".

ثم تصور خاتمة السورة مشهدا للصحابة الكرام وهم يجلسون في مسجد رسول الله في المدينة، يستمعون لخطبته، ثم سرعان ما ينادي المنادي، يخبر عن قافلة قادمة وقد حُمّلت بكل أصناف الطعام بعد أن أصابهم جوع وغلاء أسعار، فخرجوا إليها والنبي قائم على المنبر ما زال يخطب، فنزلت الآيات تعاتبهم على ذلك: " وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ".

و هذه الآيات ترسم منهجا إيمانيّا في تزكية النفوس، واستعلاءها بالإيمان على كل ما هو من متاع الدين من لهو أو تجارة، خاصة إن كان سبباً في صرف المسلم عن عبادة ربه، فتذكر أن ما عند الله من الجزاء خير من كل متاع الدنيا، جاء في صحيح البخاري حيث يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها).

ثم هي تربية إيمانية في مقاومة الهوى وشهوات النفس في أن تستشعر أن بقاءها في عبادة ربها –لا سيّما مع نبيها في المسجد– خير لها من كل القوافل والأموال، هذه التربية الإيمانية التي لخّصتها الآيات في هذه الكلمات المعدودات "قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ".

ولكنّ المنهج الرباني -كما هو سمته- يراعي حاجة الإنسان ونوازعه الفطرية في حب المال والتجارة فجاءت الآيات لا تنهى عن ممارسة التجارة والبيع والشراء والسعي في الأرض للكسب والعمل المشروع ولكن بعد أداء حق الله والفراغ من الصلاة يوم الجمعة، لكي تبقى شعيرة الصلاة الجامعة مميزة لهذا اليوم، فيقول تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".

وقوله "لعلكم تفلحون" يأتي ليؤكد أن الفلاح الحقيقي يكون في الصلاة وذكر الله كثيراً وليس فيما تكسبونه من مال أو تجارة.

وأخيرا يأتي الختام "وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" لينسجم مع بداية السورة بوصف الله بالملك وأنه الذي يسبح له ما في السماوات والأرض، فله ملكهما وبيده مقاليدهما، وهو سبحانه لا يعجزه أن يرزقكم من خيرات السماء والأرض فتوجهوا له بالعبادة والطلب ولا تغترّوا بمتاع الدنيا فهو عند الله قليل.

وما أحرى أن نتدبر ما جاء في الحديث القدسي، يقول تعالى: “يا عبادي! لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي شيئًا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. ".

هذا والله أعلم

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …