ماتت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، فتولى الملك بعدها ابنها الأمير تشارلز، بكل سهولة ويسر، وبكل رضا من عموم البريطانيين، وبغير أية إشكالات أو اختلافات.
صحيحٌ أن الملكية في بريطانيا ملكية شكلية، ولا يملك الملك فيها أن يتصرف في الشأن السياسي أو العام، وأمر الحكم برمته يعود للحكومة المنتخبة، إلا أن سلاسة نقل الملكية _ حتى مع شكليتها_ ليلفت الانتباه.
ويدفع ذلك للتساؤل من البعض: هل من الممكن أن تكون الملكية الوراثية هي الحل لبلاد الإسلام، التي تعاني من الاضطراب الشديد في نقل السلطة، بل وفي وجودها وثباتها؟
لما حدث ما حدث في العراق، بعد الاحتلال الأمريكي، وتثبيت النظام السياسي الطائفي فيها، الذي دفع العراقيين للتنازع السياسي، والذي يبدو أنه لن يتوقف، وأنه سيكون مثلما كان في لبنان.
لما حدث ذلك، نادى البعض بعودة الملكية إلى العراق، والتي انقلب عليها العسكريون عندما انقلبوا على الملك فيصل الثاني الهاشمي في عام 1958م.
وعندما حدث ما حدث في مصر، بعد الانقلاب العسكري على أول تجربة ديمقراطية في الحكم في عام 2013م، نادى البعض بعودة الملكية في مصر، والتي انقلب عليها العسكريون عندما انقلبوا على الملك فاروق عام 1952م.
في حوار مع الدكتور عبد الإله بن كيران، القيادي الإسلامي الكبير في الحركة الإسلامية المغربية، ذكر أن حركته وحزبه يريان الملكية المغربية هي دعامة الاستقرار في المغرب، وأنهما لا يعاديانها، ولن يعادياها، لأن بقاءها هو أمر استراتيجي للمحافظة على البلاد من الاضطراب والتشرذم.
والحركات الإسلامية السياسية في البلاد العربية والإسلامية التي تنتهج الملكية الوراثية طريقة للحكم فيها، تؤكد ليل نهار على احترامها لنظام الحكم، وعدم معاداته، وأنها لا تعمل إلا على محاولة الإصلاح ما أمكن في إطار الدستور، الذي ينص أول ما ينص على إقرار الملكية الوراثية في البلاد.
الحركات الإسلامية السياسية في البلاد العربية والإسلامية التي تنتهج الملكية الوراثية طريقة للحكم فيها، تؤكد ليل نهار على احترامها لنظام الحكم، وعدم معاداته، وأنها لا تعمل إلا على محاولة الإصلاح ما أمكن في إطار الدستور
فهل من الممكن حقا أن تكون الملكية الوراثية هي الحل لبعض البلاد العربية والإسلامية في ظروف معينة؟
وهل قبول الحركات الإسلامية في بعض البلاد بالملكية الوراثية فيها هو قبول حقيقي أم هو تَقيّة ومَرحليّة؟
لنا في تجربة الخلفاء الراشدين والصحابة رضوان الله عليهم أمثلة تعطينا بعض الإشارات في ذلك.
أول هذه التجارب، تجربة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما حضرته الوفاة لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي عام 23هـ. فلما أراد أن يستخلف بعده، أشار عليه بعض الصحابة بتولية ابنه عبد الله بن عمر، وهو من هو في علمه وتقواه ومكانته، فرفض ذلك رفضا قاطعا، وجعل الأمر شورى في ستة من الصحابة، ليس من بينهم ابنه عبد الله.
وثاني هذه التجارب، تجربة علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما حضرته الوفاة بعد أن طعنه عبد الرحمن بن ملجم عام 40 هـ. فلما أن طلب منه أصحابه أن يستخلف عليهم ابنه الحسن بن علي، رفض ذلك وقال: لا آمركم ولا أنهاكم.
وثالث هذه التجارب تجربة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، عندما استخلف من بعده ابنه يزيد، خوفا من الفتنة والتنازع بعده، كما فسر ذلك أعلام الإسلام حينها وبعدها.
فإذا ما استشهد البعض بتجربة معاوية رضي الله عنه، وأكد بذلك على جواز الملكية الوراثية في الإسلام، عند خوف الفتن والتنازع.
فإننا سنستشهد لهم بما فعله علي رضي الله عنه، عندما رفض التوريث لابنه، وقال: لا آمركم ولا أنهاكم. مع أن خوف الفتنة في عهد علي كان أشد، إذ كانت الدولة الإسلامية مقسومة، والحرب دائرة بين قسميها.
وإذا ما أشار البعض إلى سلاسة انتقال الحكم في الملكية الوراثية كما شاهدناه في بريطانيا. فإننا سنستشهد بسلاسة انتقال الحكم في الديمقراطيات الغربية الراسخة، كما رأيناه ونراه في انتقال الحكم من رئيس لرئيس في فرنسا وأمريكا وغيرها.
الوراثية في الحكم في الإسلام مرفوضة برأيي، والقاعدة الأصل في المسألة أن يختار للحكم أهلُ الحل والعقد، دون إجبار أو خوف.
وأهل الحل والعقد يختارون الأصلح، وترضى الأمة باختيارهم.
ومن سوءات الديمقراطية، أن يُترك أمر اختيار الحكام للغوغاء والدهماء، الذين تتحكم فيهم الشهوات والأهواء، ويحركهم السفهاء والخبثاء.
لا بد أن يكون الاختيار في الإسلام لأهل الحل والعقد، فإن كانت الديمقراطية تعني اختيار عموم الناس، فإننا نرضى بها ونعمل من خلالها، إلى اليوم الذي نستطيع فيه أن نصل للوضع الإسلامي الأمثل، الذي يرجع الأمر فيه لأهل الحل والعقد؛ أهل الشورى من العلماء والقادة ورؤوس الناس، الصالحين المصلحين، الذين لا يصلون لأماكنهم في ظل الدولة الإسلامية إلا لصلاحهم وكفاءتهم، لا لنفاقهم وفسادهم.
لكن، هناك تساؤل جوهري: هل من الممكن أن يعمد أهل الحل والعقد إلى الرضى بالوراثية، خوفا من الفتنة والاضطراب؟
والجواب_ من وجهة نظري_ أن لأهل الحل والعقد الصالحين المصلحين الأكفاء، أن يختاروا بحرية ما يشاؤون، حتى وإن كان اختيارهم لوريث الحاكم الراحل، على أن تكون الاعتبارات لذلك واضحة وقاطعة. ويبقى الأمر في هذه في حكم الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، وتبقى الضرورة مع ذلك استثنائية عارضة، وليست قاعدة ثابتة دائمة.