كم من مسلم يتمنى على الله تعالى أمنيات، ويترقب متى تتحقق بعينها، فإذا طال عليه الأمد يئس وتذبذب أو تململ واشتكى؛ فكيف يكون تعامل المسلم مع الأمنيات وطلبها من الله تعالى؟
بداية، ألستَ أيها المؤمن توقن يقينًا لا يُخالطه شك أنّ الله لو شاء لأعطى؟ لا يمنعه عن العطاء عجز وهو القادر القهار، ولا يُمسِك عطاءه بخلًا وهو الغنيّ يداه مبسوطتان، ولا يُنقِص من مُلكه مسألة سائل ولا حاجة محتاج؟ ألستَ تقرأ قوله تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147]، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، فتُوقن أنه تعالى لا يريد بك إلا خيرًا وهو أرحم بك من والدَيْك؟ إذن، ماذا يترتب على هذا اليقين إذا صدق؟
في الجزء السابق ذكرنا أول ما يترتب على ذلك اليقين، وفيما يلي ثاني ما يترتب، وهو أن تصرف جهدك وطاقتك ومخـزونك النفسي فيما خُلِقْت له، ولـن يضمنه لك أحَـدٌ إن لم تَقُم به: إحسان العبادة لله تعالى، وتلمّس ما تستطيع من السبل والوسائل لهـــا: {مَنْ جَعَـلَ الْهَمَّ هَمًّا وَاحِدًا كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْهُ الْهُمُومُ لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَةِ الدُّنْيَا هَلَكَ} [ابن ماجه]. فليكن همّك أن تصبح فتَغنم في يومك قربًا من الله تعالى، وتُمسي لم تكتسب إثمًا، وتشتغل بأن توسّع فقهك وفهمك للبر والإثم وعبادة الله عبادة حقيقية. ومهما بلغت هموم المسلم لهذه الدنيا فهي هموم فانية. ولو لم يكن في ترك الهم والقلق إلا الحفاظ على الصحة البدنية والنفسية لكفى، فكيف وللمؤمن عهد حقّ من الله ورسوله بأنّ أمره كله خير في السرّاء والضرّاء، والهمّ والسرور، والمنح والمنع؟! ثمّ إن الله تعالى لا يحاسبك على رزق بذاته هل فاتك أم أتاك، ولا ما الذي كان ليفوتك أو كان سيأتيك مما كنت تتوقع، وإنما على ما توفَّاك عليه كيف عملت فيه: ما آتاك كيف ابتغيته فيه وشكرته عليه، وما منعه عنك كيف صبرت ابتغاء وجهه وتمسَّكت بحسن الظن فيما هو أهله وفي عدله وحكمته. فإن الله تعالى لا يعجزه شيء ولا تتعاظمه أمنية ولا يمنع بخلًا – كلّا وحاشا - وإنما بيت القصيد وجوهر الامتحان كله في التسليم لمشيئة الله تعالى على كل حال، واختبار الإيمان كله في مدى ثباتك أنت على هذه القاعدة، فأنت المُمتَحَن لا المُمتَحِن، وأنت محل الاختبار وليست قدرة الله تعالى ولا حكمته ولا مشيئته ولا تقديره وقسمته، وإلا فالله تعالى لا يُعجِزُه شيء ولا ينقص في ملكه تعالى أو يزيده إجابة سائل أو منعه، والملك كله له سبحانه، وإنما لو أنّ كل ما أردته مُنِحتَه وكل ما لم ترده مُنِعتَه فأين اختبارك أنت إذن؟! وأين تمحيص درجات الإيمان بين كل الدعاوى المرفوعة والشعارات المدبوجة؟!
هذا ولا يتعارض صرف الجهد والطاقة في وجوههما مع ما يموج في النفس من اللهفة وما يتَّقد فيها من الرغبة تجاه أمنية أماني. فإن اللهفة والرغبة مما يدفعان صاحبهما للإلحاح في الدعاء واستشعار الافتقار والاحتياج بحق، وهذه النفسيّة المطلوبة في الداعي. لذلك فالتمني من الله تعالى لا يناقض الرضا والقناعة طالما كان بنيّة التعبد وطمع في كرم الله تعالى وحسن ظن بما هو أهله مع استحضار يقين الإجابة كما وردت في أنواعها الثلاثة في الحديث بغير تحجيرها في واحدة بعينها: "ما من مسلِمٍ يَدعو، ليسَ بإثمٍ و لا بِقطيعةِ رَحِمٍ إلَّا أَعطَاه إِحدَى ثلاثٍ: إمَّا أن يُعَجِّلَ لهُ دَعوَتَهُ، و إمَّا أن يَدَّخِرَها لهُ في الآخرةِ، و إمَّا أن يَدْفَعَ عنهُ من السُّوءِ مِثْلَها قال: إذًا نُكثِرَ، قالَ: اللهُ أَكثَرُ" [أحمد]. ثم إنّ صرف الجهد والطاقة بحقّهما في تلك الوجهة الصحيحة سيمنع تضخيم اللهفة والرغبة وما يؤدي إليه ذلك التضخيم من تَلَف نفسي وبدني ومخالفات إيمانية على ما تمّ توضيحه. إذ ليس الشأن القناعة بالموجود فحسب، بل الرضا عن المُوجِد. فإن نفسًا لن تموت قبل أن تستوفي رزقها، وإنّ الله لا يبخل على أحد ولا يُعجِزه شيء، ولا يُقسّم سبحانه الأرزاق إلا بحكمة وإن خفيت عن العبد فالأصل أن يقينه في الله بالغيب، ومن أصول الإيمان بالغيب أن توقن أنه سبحانه يعلم وأنك لا تعلم، وأنه سبحانه لا يُسْأل عما يفعل وما يَقسِم وأنت تُسأل عما تفعل فيما قَسَم لك. وإنّ العبد عامة لا يدري قطعًا أين وما الخير له، وإنّ المؤمن خاصة يوقن قطعًا أنّ الله يريد به خيرًا. فلعلك ترجو أمرًا ويعلم الله فيه شرًا لك فيصرفه عنك على رغبتك فيه، أو تَكره أمرًا فيجعله الله لك فيه خيرًا كثيرًا. وقد يحصل أن يجد الداعي في نفسه الزهد تجاه أمنية أو مسألة بعد فترة إلحاح فيها، فيترك الدعاء بخصوصها (لا الدعاء مطلقًا). وهذه الحال لا بأس فيها بذاتها، إذ لعلّ هذا التزهيد من عند الله تعالى بصَرف اللهفة في نفسه عليها وصَرْف اشتهائها عنه، وهذا من صور الاستجابة، وإنما المهم ألا يكون زهده ذاك من باب الملل من سؤال الله أو الإياس من استجابته تعالى.
واذكر أن ما كُتِب لك فهو آتيك على ضعفك، وما لم يقدَّر لك فلن تستجلبه بقوتك. ولا يعني ذلك التواكل والتهاون في السعي، بل يعني إجمال الطلب كما في الحديث " أيُّها النَّاسُ اتَّقوا اللَّهَ وأجملوا في الطَّلبِ فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتَّى تستوفيَ رزقَها وإن أبطأَ عنْها فاتَّقوا اللَّهَ وأجملوا في الطَّلبِ خذوا ما حلَّ ودعوا ما حَرُمَ" [ابن ماجة]. أي لا تتعجّلوا الحلال من الرزق باتخاذ أسباب محرّمة لكسبه وتحصيله، ولا تلهثوا وتتهافتوا على الطلب بما يلهيكم بالوسائل عن الغايات، وينسيكم أن غاية السعي في طلب الرزق هو التعبد لله بالأخذ بما شرَع من أسباب، لكن أحدًا لن يستجلب فوق ما كتب الله تعالى له، فالله وحده الرزاق وإن تعدّدت ظاهريًّا الأيدي التي تعطي والأسباب التي توصل.