بدأ الموسم الدراسي الجديد في دولنا العربية، بالصورة التقليدية، التي لم تفلح العقود الماضية من التطور الذي طرأ على العالم ومفردات الحياة في مختلف مجالاته، والتي من بينها المعرفة واكتساب العلم.
دخل التلاميذ والطلاب فصولهم الدراسية فيما لا تزال جائحة فيروس كورونا المستجد "كوفيد – 19"، تلقي بظلالها على المجتمعات العربية والإنسانية كافة.
كذلك بدأ العام الدراسي الجديد وسط صخب المدافع والصواريخ في الحرب الروسية في أوكرانيا، والتي وصلت أصداؤها الاقتصادية إلى بلداننا المُتعَبَة أصلاً بفعل الجائحة والأزمات السياسية والأمنية التي تمر بها الكثير منها، مما كان له أثر بليغ على استعدادات غالب الأُسَر لاستقبال العام الدراسي الجديد.
ولكن، ولئن كان هناك ملمح من الغرائبيات في هذا الشأن، فهو تحوُّل الدراسة في بلداننا العربية إلى نمط إداري في التعامل معها، وليس كما هو مفترض من وظائف العملية التعليمية والتربوية في المدارس.
فالأمر تحول إلى قائمة مشتريات، وإجراءات قيد/ نقل.. إلخ في المدارس، بالنسبة للأُسَر، أما بالنسبة للإدارات التعليمية والجهات الحكومية المعنية، فقد تحول الأمر إلى دفاتر قيد ومتابعة، وإجراءات، وسلسلة من التعليمات، بينما آخر ما في هذه الجعبة من الأمور، هو جوهر الأمر؛ التربية والتعليم.
والحقيقة أن التربية بمعناها الواسع، الذي يشمل عملية التلقين المعرفي والتطوير العقلي، هي من أهم ما يكون؛ حيث هي حرفيًّا ضمان بقاء واستمرار المجتمعات الإنسانية بقيمها وهويتها والتي تشمل عاداتها وتقاليدها.
التربية بمعناها الواسع، الذي يشمل عملية التلقين المعرفي والتطوير العقلي، هي من أهم ما يكون؛ حيث هي حرفيًّا ضمان بقاء واستمرار المجتمعات الإنسانية بقيمها وهويتها والتي تشمل عاداتها وتقاليدها
ففي تعريفها للتربية، تقول الخبيرة التربوية المصرية، الدكتورة نوال أحمد نصر، إن التربية هي الأداة الأساسية التي تسعى بها الأجيال الأقدم إلى الحفاظ على بقاء واستمرار الجماعة، بنظمها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبقيمها الأخلاقية، وسلوكياتها وكل ما يرتبط بهويتها، ونقلها إلى الأجيال الجديدة ["ما التربية"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2019م، ص 8].
وبالتالي؛ فإنه من بين أهم وظائف التربية " Education" وفق الدكتورة نوال نصر:
- الحفاظ على التراث الثقافي ونقله، وهي وظيفة ترتبط بقضية الهوية.
- القيام بعملية التطبيع الاجتماعي ""Social normalization، أي إكساب الناس الصفات السلوكية والاجتماعية المميزة لهم عن غيرهم من المجتمعات الأخرى، والتي تميِّز الإنسان عن سائر المخلوقات الحية الأخرى.
- تحقيق النمو الشامل، والمقصود بالنمو هنا، هو نمو الإنسان في مراحل عمره المختلفة، وبمعنىً أدق، التنمية الشاملة له؛ فهو لا يكون بحاجة إلى النمو الجسدي فحسب، وإنما كذلك إلى النمو العقلي والاجتماعي، وهو ما لن يتحقق سوى بالتربية.
- اكتساب الخبرات الاجتماعية والسمات والأنماط السلوكية المختلفة، وتعلم اللغة.
باختصار، ترتبط عملية التربية في أي مجتمع، بعنصر التطور والتقدم؛ حيث التربية تقوم كذلك بتنقية التراث وما لحق به من شوائب أو عوامل إضعاف للأمة والمجتمع، وتقوم كذلك بنقل الخبرات القديمة وإكساب الجديدة منها للأجيال الأحدث، وكل ما هو يرتبط بقضية التطور الحضاري للمجتمعات الإنسانية.
وهناك عدد من الروافد الأساسية للتربية، منها ما يتم من خلال التفاعل مع البيئة الاجتماعية المحيطة بالإنسان، ومنها ما يتم من خلال مؤسسات لا تُعتبر رسميًّا منوط بها مهمة "التربية والتعليم" بالمعنى القريب المباشر، مثل النادي والمكتبة العامة ودور العبادة، وحتى وسائل الإعلام والاتصال، بينما المدارس هي المنوط بها التربية بالمعنى النظامي.
في إطار هذه الصورة الأشمل، فإن عملية التربية، هي عملية تتسم بالآتي:
- الاستمرارية.
- الشمول واتساع النطاق.
- تعدد الأدوات.
- الاتصال بالعلوم الأخرى المختلفة، وبخاص علوم النفس والاجتماع والسلوك.
والتربية عملية أوسع بكثير من دراسة العلوم الطبيعية والإنسانية المختلفة في المدارس؛ حيث إن ذلك هو فقط جزء واحد من مساق واحد ضمن مساقات متعددة للتربية، هو المساق النظامي في المدارس بأشكالها المختلفة.
وتُعنى التربية في إطار هذا المفهوم بتطوير مختلف مكونات شخصية الإنسان، المادية والمعنوية، بدءًا بمراعاة متطلبات نموه الجسدي والعقلي، والتلقين المعرفي والعلمي، وكذلك التنشئة الأخلاقية والسلوكية، وهي الدوائر الأساسية لمكونات أية شخصية.
وهناك عدد من العوامل يجب وضعها في الحسبان عند تحديد خطة تربية الأطفال والأولاد والفتيات في مرحلة البلوغ وما قبل البلوغ، لأنها تؤثر بشكل كبير على السياقات العملية للتربية، ومنها:
- الظروف المحيطة بالطفل، والخبرات الاجتماعية التي يكتسبها من دوائر حركته، وكذلك ما يتعلق بالأب والأُمِّ في هذا الصدد.
- الدوافع والسمات الشخصية، للطفل، ولأولياء أموره، ومُعَلِّميه في المدرسة.
- الخبرات الذاتية للطفل، وكذلك للقيِّمين على تربيته.
وبطبيعة الحال؛ فإن الحديث عن التربية؛ تعريفها وأهميتها ووظائفها وأدواتها وآلياتها ومساقاتها، يتطلب كتبًا ودراسات، ولكن الغرض الأساسي لما سبق، هو في توضيح أن التربية مفهوم أوسع بكثير مما تظنه الغالبية العظمى من الآباء والأمهات، وحتى التربويين في المدارس.
وكذلك التأكيد على حقيقة مهمة، وهي أن التربية تتطلب من الآباء والأمهات، ومن القائمين على مساقاتها المختلفة، تتطلب جهدًا وعملاً أوسع بكثير مما يتم.
ونلاحظ أنه في البلدان التي تملك منظومات اجتماعية متطورة بمفاهيم الحداثة المعاصِرة، سواء في الغرب، كما في البلدان الإسكندنافية التي تملك أفضل منظومات التعليم في العالم، أو في بلدان الشرق الأقصى، مثل اليابان؛ فإن هناك حرصًا على دمج العلم في هذه المسألة.
ودمج العلم يكون بأكثر من صفة. أولاها، تأهيل المقبلين على الزواج وتكوين الأُسَر، وتزويدهم بالمعارف الأساسية لتربية أبناء المستقبل، وغرس الرؤية السابقة لديهم؛ أن التربية أوسع وأهم بكثير من المفهوم القريب لها، من خلال دورات مُخَطَّطة علميًّا، ويعطيها خبراء متخصصون في ألوان شتى من العلوم، منها علم النفس والسلوك، والثقافة العامة، وغير ذلك مما يتصل بما سبقت الإشارة إليه.
كذلك دمج العلم يكون من خلال تطوير هذه العملية في أهم مساقات التربية، وهي المدارس؛ حيث ماعون التربية والتعليم الأساسي، والرافد الرئيس لها، وأن يكون العام الدراسي له أهداف أخرى بخلاف مجرد مشاركة أرقام جامدة فحسب، عن عدد الطلاب في المدارس، والتقاط الصور لهم في طوابير الصباح، بينما المحتوى خاوٍ تمامًا!