حديث السورة عن الشرك
لقد كان بعض العرب يعبدون النجوم، ولعلّ نجم الشعرى والذي ذُكر في سورة النجم: “وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى" هو واحد من هذه النجوم، قال السدى: كانت تعبده حمير وخزاعة، وذكر القرطبي في تفسيره: (أول من عبده رجل يقال له أبو كبشة، أحد أجداد النبي ﷺ من جهة أمهاته، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي ﷺ ابن أبي كبشة - حين دعاهم إلى ما يخالف دينهم.)
فجاءت أول آية في السورة لتأكد أن هذه النجوم لا تستحق العبادة، قال تعالى: “وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى" ومن المفسرين من فسر "هوى" أي سقط أو نزل من علو عند الفجر، ومنهم من فسر هُويّ النجم أي إذا غاب، وفي الحالتين فإن سقوط النجوم أو غيابها صفة نقص فيها تؤكد أنها مسخرة بأمر الله ولا تصلح أن تكون أربابا معبودة بحال.
إنه الاستهلال المبارك في السورة والذي ينكر على المشركين شركهم، ليكون مقدمة لما ستتحدث عنه السورة عن نوع آخر من الشرك وهو عبادة المشركين للأصنام، قال تعالى: "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى" وكأنّ الله يقول لهم أنْ لا أصنامكم في السماء ولا أصنامكم في الأرض ستغني عنكم من الله شيئا.
ثم تعيب السورة كذلك على هؤلاء المشركين نسبة الولد إلى الله، وأن الملائكة بنات الله، ويا لها من قسمة ظالمة جائرة أن ينسب هؤلاء المشركون إلى الله ما يستحي أحدهم أن ينسبه لنفسه، قال تعالى: “أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ".
إن هذه الملائكة التي زعمتم أولا أنها إناث بغير علم ولا برهان ثم ادّعيتم كذبا وافتراء أنها بنات الله لا تملك من أمرها شيئا، فضلا عن أن تنفعكم فتشفع لكم أو تدفع عنكم ضرا: "وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ".
إن في ذلك دلالة واضحة على ما بلغه أولئك الجهلاء من عظيم افتراء وسوء أدب مع الله تعالى.
تزكية النبي ﷺ
وترفع السورة مقام النبي وقدره، فتنفي عنه الضلالة في الاعتقاد والمسلك: “مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى" فهو على الحق المبين والصراط المستقيم، وفي كلمة "صاحبكم" توبيخ للمشركين أي أنهم يعرفون محمّدا قبل البعثة بالرجل الصادق الأمين، فكيف تكذّبونه الآن بعد أن جاءكم بالوحي من عند الله.
ثم تزكي الآيات منطقه ﷺ عن كل باطل أو هوى: “وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى" قال ابن عاشور (وَاعْلَمْ أَنَّ تَنْزِيهَهُ ﷺ عَنِ النُّطْقِ عَنْ هَوًى يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ أَوْ يَحْكُمَ عَنْ هَوًى لِأَنَّ التَّنَزُّهَ عَنِ النُّطْقِ عَنْ هَوًى أَعْظَمُ مَرَاتِبِ الْحِكْمَةِ).
وعليه فإن كل ما يصدر عنه ﷺ في أمور التشريع هو وحي من الله: “إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى" أي إنما يقول ما أمر أن يبلغه إلى الناس كاملا موفورا بلا زيادة ولا نقصان(تفسير ابن كثير).
ثم تزكّي السورة أمانته وصدقه: “ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى" أي ما رآه من صورة جبريل عليه السلام حين أتاه بالوحي.
ثم تزكي بصره، وأدبه مع ربه –عز وجل-: “مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى" أي في حادث المعراج، والمعنى كما قال القرطبي (لَمْ يَمُدَّ بصره إلى غير ما رأى مِنَ الآيات. وَهَذَا وَصْفُ أَدَبٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، إِذْ لَمْ يَلْتَفِتْ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا).
ولا شك أن تزكية المعلم تزكية للمتعلم، ولذلك وصفت الآيات جبريل عليه السلام بالقوة في الصفات العملية والعلمية: “عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ".
الحق يقوم على اليقين لا الظن
وتطرح السورة منهجا قويما في مجادلة هؤلاء المشركين، وبيان أن ما اتجهوا إليه من عبادة الأوثان لا تقوم لهم به حجة وليس عليه دليل أو برهان، وإنما هو اتباع أمرين لا ثالث لهما: الظن الذي لا تقوم به حقيقة أو التعصب عن هوى، قال تعالى: “إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ".
وفي موضع آخر من السورة: “وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ".
ولو وقف هؤلاء وقفة صادقة مع أنفسهم واحترموا عقولهم لما أشركوا ولعلموا أن الهدى والحق هو فيما جاءهم به النبي ﷺ من عند الله: “وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ".
إنها رسالة واضحة لكل من يبلغ دعوة الله إلى الناس أن يكون خطابه قائما على الحجة والبرهان كي يقتنع به الناس ويقبلوه.
منهج في تزكية النفس
إن من عظمة هذا الدين أنه يراعي الفطرة البشرية، فيقدّر وقوع النفس في الأخطاء والذنوب، ولكنه مع ذلك لا يدفعها إلى اليأس والقنوط، بل يمنحها الفرصة على مواصلة المسير، والارتقاء عن أوحال المعاصي، ويوجهها إلى تصويب الأخطاء ومحو السيئة بالحسنة: “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ".
وتأمل وصف المغفرة بالسعة "إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ" وتأمل كم توحي كلمة ربّك بالرعاية والقرب وكأنها تفتح الأبواب مشرعة لكل مذنب ومقصر أن يدخل منها إلى رحمة الله ومغفرته.
إن السعي إلى الكمال والترفع عن الفواحش من الأقوال والأفعال قد يعتريه خدوش أو تشويه فتزل القدم أحيانا، وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي لمن هذا شأنه أن يتكبر أو يغتر بعمل يعمله أو مقام يبلغه، فالله أعلم بدواخل النفوس وبواعث النيّات: “هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ".
تحمّل المسؤولية
إن النتائج والعواقب لا تكون بالتمنّي، فالكل سيحاسب على أعماله وأفعاله: “أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخرة وَالْأُولَى ".
فله سبحانه وتعالى المرجع والمآل، وسيجازي الجميع على أعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُوا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)
ثم تقرر الآيات مبدأ المسؤولية الفردية وأن الكل مسؤول عن عمله، ولن يحمل أحد وزر أحد، أو يحاسب عنه "أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ".
ولا شك أن استحضار مراقبة الله، والخوف من لقائه يوم الحساب، يعزّز الشعور بهذه المسؤولية ويجعل الإنسان يقف مع نفسه وقفة حساب وعتاب، فينظر فيما يفعل، فإن كان خيرا أمضاه وإن كان شرّا عدل عنه، ولعل هذا ما توحي به الآية الكريمة: “وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ".
الناس فريقان
وبعد أن كان الحديث عن صنف المؤمنين الذين يفعلون الحسنات ويستغفرون من الزلات، جاء الحديث عن صنف آخر وصفته الآيات بالتولي والإعراض "أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى" ثم بالبذل والسعي المستمر في الكيد سواء ببذل النفس أو المال في الصدّ عن سبيل الله: “وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى" ولقد جاء في سبب نزول هذه الآية كما قال مجاهد وابن زيد: إن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد سمع قراءة رسول الله ﷺ وجلس إليه ووعظه فلان قلبه للإسلام فطمع فيه رسول الله ﷺ، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين وقال له: أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك، واثبت عليه، وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عما همّ به من الإسلام، وضل ضلالا بعيدا، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح.
وانظر إلى هذا الجاهل إذ قبل أن سواه يحمل أوزاره يوم القيامة إذا أدّى له أجرا معلوما، وكيف ضمن ذلك وظن أنه سينجو وما عنده علم بما سيكون عليه حاله في غيب الآخرة: “أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ".
إنها سفاهة العقول وسذاجة التفكير...
إن مثل هؤلاء لا ينفع معهم الوعظ والنصح: “فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" فحبّ الدنيا وتمسكهم بشهواتهم ومصالحهم هو الذي أعمى بصيرتهم وأضل عقولهم.
إن ما يردع هؤلاء هو التهديد والوعيد، ولذا تذكر السورة طرفاً من إهلاك الأقوام السابقة التي كفرت: “وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ".
فلعل استذكارهم لهؤلاء الهالكين الذين يعرفونهم ولا يزالون يرون آثار ديارهم في أسفارهم، يكون لهم عبرة فيعودون إلى صوابهم ويرجعوا عن غيّهم؟؟ قال تعالى: “هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى ".
الاعتبار بتغيّر الأحوال
إن دوام الحال من المحال، وتضرب السورة أمثالا عديدة على ذلك، فهذه الحياة لن تكون على وتيرة واحدة، فهي ما بين حزن وسرور (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) وحياة وموت (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) وغنى وفقر (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى).
إن هذا التغيّر المستمر يشعرك بعدم الثبات، والانتقال من حال إلى حال، فمن قوة إلى ضعف ومن شباب إلى هرم حتى ينتهي الأمر بانتقالك أخيرا من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى).
وتوحي الآيات بقرب هذا اليوم، ومدى الهول الذي سيصحبه في قوله تعالى: “أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ".
وكأنك ترى القيامة قائمة والموازين قد نُصبت للحساب، والجموع قد حشرت للجزاء فكن على حذر واستعد لذلك اليوم وأعدّ لكل سؤال جوابا حتى تكون من الفائزين.
فأولى بالإنسان أن يتذكر فلا يغفل، ويجدّ فلا يلهو، ويتدارك نفسه وأخطاءه فيبكي ولا يضحك ثم يتوجه إلى ربه ساجدا يرجو رحمته ويطلب مغفرته: “أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ. فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا".
هذا والله أعلم