الإعلام والوسائط الرقمية وواجبات الساعة للتربويين

الرئيسية » بصائر تربوية » الإعلام والوسائط الرقمية وواجبات الساعة للتربويين
dawah-to-children-muslim-family-deenspiration-SMALL-1280x640

قد تكون قضية تأثيرات وسائل الإعلام والوسائط الرقمية على الأطفال والناشئة من بين القضايا المزمنة التي يناقشها علماء الاجتماع والتربويون منذ عقود طويلة من الزمن، منذ ظهور مصطلحات مثل "الإعلام الجماهيري" (Mass media)، وصناعة "الترفيه" (Entertainment).

إلا أن هناك الكثير من المنحدرات والهِضَاب الوَعِرَة التي أحدثتها طَفَرات في سياسات وسائل الإعلام والمنصات المختلفة، تفرض الكثير من النقاشات المُستَجَدَّة، أو على الأقل تعيد التنبيه على عدد من القضايا التي هي على أعظم قدر من الأهمية والخطورة في مجتمعاتنا العربية والمسلمة.

فالأمر دخل في سياق يمكن أن يندرج تحت توصيف "التيارات الهدَّامة"، وليس المقصود بها فحسب تلك التيارات الفكرية التي تخرج عن نطاق عقيدتنا وعاداتنا وتقاليدنا، وإنما أيضًا تدخل فيها موجات التأثير على أفكار وعقول وقِيَم أطفالنا، من خلال ما ينشؤون عليه، وبالتالي يُصبح الأساس الذي يحركهم ويوجههم عندما يكبرون، ويكونون أعضاء فاعلين في المجتمع.

وبالتالي فإن القضية أعمق وأخطر مما نظن. ففي العقود الماضية، ظهرت علامات فشل الكثير من الخطط الموضوعة للغزو الفكري والتبديل القيمي والمعياري في فضائنا العربي والإسلامي، والتي استهدفت البالغين ممن كانت لديهم مناعة من نوع ما ضد هذه النوعية من الأفكار، بعدما نشؤوا عليه من أسس كانت سليمة.

صَحيحٌ أنها مناعة متفاوتة الدرجات، إلا أنها في النهاية وقفت حائلاً أمام الكثير من التيارات التغريبية والأفكار التخريبية.

ومن ثَمَّ؛ كان التفكير لدى خصوم الأمة هو الانتقال إلى خطوة أكثر فاعلية، وهي ما يُسمَّى لدى الاقتصاديين بـ"الحَجز عند المنبَع"، وفي حالتنا هذه، كان الحَجز عند المنبع، هو التأثير على الأطفال والناشئة، بهدف القضاء على هذه المناعة وهي لا تزال بذرةً في مهدها.

وهو ما يمكن الاستدلال عليه ببساطة، بقضية الترويج لما يُعرَف بـ"مجتمعات الميم"، والتي تتضمن منظومة من ألعن منظومات الانحراف المعياري، أي تطبيع الخطأ، ونزع صفة السوء عنه، مثل التسويق للشذوذ الجنسي والعلاقات المثلية، باعتبار أنها من الأمور الطبيعية، والتي ينبغي أن نتعايش معها.

هذا الترويج نجده منذ سنوات وقد انتشر على وسائل الإعلام الغربية، وكأنه أهم قضايا الإنسانية، مثلما تحاول برامج قنوات أمريكية وبريطانية تصوير حقوق المرأة العربية والمسلمة، وقضاياها على أنها تنحصر وفقط، في ممارسة الرياضة وتعلُّم الموسيقى والرقص والحرية المنفلتة من أي ضوابط.

إلا أنه وفي الفترة الأخيرة، وجدنا أن هذه "القيم" بدأت في النزول إلى المساحة السِنِّيَّة الأصغر (الأطفال) كما في أزمة مسلسلات وأفلام "ديزني" الجديدة، مثل سلسلة "حكاية لعبة" المعروفة باسم "Buzz"، أو المواد التي تعرضها منصة "نتفليكس".

ولنَقِس على ذلك عددًا من الأمور. فألعاب الأطفال الجديدة التي ملأ صيتها الآفاق، بدلاً من أن كانت ترتبط بأشكال من العنف المؤثر نفسيًّا فحسب على الأطفال، من خلال منهجية "التدمير" في غالبيتها؛ تدمير سفن فضاء/ مخلوقات غريبة/ حيوانات في الغابة.. إلخ، صارت تقدم للطفل هذه المنهجية على البشر أنفسهم، وبصورة شديدة الخبث وبالتالي، شديدة التأثير.

فمثلاً، صرنا نرى ألعاب تعتمد على رسالة "اقتل الأعداء لحماية الأصدقاء/ المدينة/ المزرعة.. إلخ"، ثم بات هؤلاء الأعداء – بالمصادفة!! – يشبهون إمَّا العرب والمسلمين أو الصينيين! ثم انتقلنا إلى خطوة أعمق، وهي "اقتل الأعداء لكي تحصد الجوائز"، وفي البداية، كانت هذه الجوائز عبارة عن "coins" سيبرانية، ثم باتت جوائز مالية حقيقية، يتم تسويتها من خلال وسائل الدفع الإلكترونية المختلفة!

ويتم تقديم ذلك في إطار باقة من القذارات، التي تروِّج للغرائز الجنسية، فالدليل أو المرشِد في هذه اللعبة أو تلك، يكون في صورة فتاة ترتدي ملابس مثيرة، حتى وصلنا إلى مرحلة الألعاب والأفلام الجنسية المنحلَّة التي تعتمد على رسوم متحركة وصور أطفال!

وعندما وصلنا إلى هذه المرحلة، بتنا نلاحِظ انتشار جرائم لم تكن مألوفة لدى الأطفال، ولم يكن من المتصور أصلاً أن تكون لديهم، في ظل عدم اكتمال نموهم البدني والعقلي، والذي –أي هذا النمو– يضمن وجود منظومة عصبية ونفسية كنا نتصور أنها ضرورية لارتكاب هذه الجرائم.

ولكننا بِتنَا نسمع عن جرائم قتل واغتصاب في المدارس الابتدائية والإعدادية، وزنا محارِم بل وقتل للآباء والأمهات على أيدي أطفال لا يتجاوزون العاشرة من أعمارهم.

وبالنظر إلى ألعاب أصبحت ممنوعة في كثير من البلدان العربية والمسلمة، مثل "ببـﭽـي" "PUBG" و"الحوت الأزرق"، سوف نلقى عجبًا، فبعضها يدفع الأطفال والمراهقين إلى إيذاء بعضهم البعض، بل وإيذاء أنفسهم، من أجل حصد المزيد من النقاط، أو تحصيل بضعة دولارات من خلال حسابات خاصة بهم، وبطاقات ائتمان مرتبطة بها يدفعون النشء دفعًا إلى سرقتها، ووصل الأمر إلى وقوع حالات انتحار بسببها.

في الحقيقة، نحن أمام مثابرة عجيبة من الأطراف التي ترعى هذه الفوضى في فضاءاتنا، وهي مثابرة تقتضي وفق قانون أنه لكل فعل رد الفعل الذي يساويه في المقدار ويضاده في الاتجاه، مثابرة مماثلة من جانب الأطراف المعنية، وأهمها المُرَبِّي في المدرسة، والداعية في وسائل الإعلام، والإمام في المسجد، وصولاً إلى الدائرة الأخطر والأكثر تأثيرًا، وهي دائرة الأب والأُمِّ في المنزل.

فلم تعُد تكفي المتابعة العابرة، أو التوجيه، أو التوبيخ واللوم على فترات متباعِدة، وإنما أصبح الأمر يتطلب متابعة وثيقة، ومثابرة حثيثة من الأب والأُمِّ.

وإذا ما حاول البعض أمامك تبرير إهمال الأطفال والأبناء في هذه المراحل الحرجة، مراحل التكوين والاضطرابات النفسية والهرمونية، بالسعي على "لُقمة العَيْش"، وأن الأبَ أو الأُمَّ منشغلٌ عن الأسرة لأجل الأسرة؛ لأن العمل واجب وضرورة لتدبير المعايش ومصاريف البيت، هذا مردود عليه.

فالاعتبارات السابقة، تُطرح من زاوية اعتبارات المصلحة، وهذا لا غبار عليه من حيث المبدأ؛ فإن واجب الآباء والأمهات السعي على مصالح الأبناء، إلا أنه ينبغي أن يكون في مدركات أولياء الأمور في الأُسَر، أن مفهوم المصلحة الأُسَرِية أوسع من تدبير النفقات.

ينبغي أن يكون في مدركات أولياء الأمور في الأُسَر، أن مفهوم المصلحة الأُسَرِية أوسع من تدبير النفقات

فالإهمال في المتابعة التربوية والرقابة على الأبناء، والاستجابة في ذلك أيضًا لما يهب من ريح خبيثة على منصات التواصل الاجتماعي والفضائيات وغير ذلك من أدوات الإعلام بأن "الزمن قد تغيَّر"، و"ضرورة مراعاة خصوصيات الأبناء"، وأن هذا "سلوك خاطئ"، هذا يؤدي في النهاية إلى تفريغ كل ما يفعله الآباء والأمهات خارج المنزل من سعيٍ وعملٍ من مضمونه.

فالأمر دخل في نطاق الجريمة، فهنا صار الإهمال التربوي، التوجيهي والرقابي في المنزل، يقضي أصلاً على الأسرة، فإما أن يتعرَّض وليُّ أمر الطفل أو المراهق القاصر إلى عقوبة الغرامة أو السجن نتيجة سلوك جاءه ابنه أو ابنته بسبب هذه التيارات الهدامة، أو يخسر كل شيء بجريمة يذهب ضحيتها الابن أو الابنة لذات السبب، فيذهب كل جهده في العمل، هباءً منثورًا.

الحقيقة أن المهمة صارت ثقيلةً وشديدة الصعوبة، في ظل وجود جيل أو جيلَيْن نشأ متمرِّدًا -من الأصل- على العادات والتقاليد، وعلى فكرة الصواب، وعلى قبول التوجيه، مع خلل كبير في التركيبة الفكرية والنفسية، إلا أنه -وبنفس منطق الخصوم- كلما بدأنا مبكِّرًا، وكلما ثابرنا، كلما حققنا نجاحًا، ومن دون ذلك؛ فهو الضياع لا محالة!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

لا تنظيم بلا التزام: كيف نحمي صفنا من الداخل؟

لا يمكن لأي مؤسسة أو شركة أو حتى جمعية صغيرة أن تحقق النجاح والاستمرارية ما …