الفرائض التي فرضها الله على الناس، هي فرائض مفروضة في كل وقت وحين، لكن لكل منها وقته المحدد وحينه المعين.
وعندما نقول (فريضة الوقت) فنحن نقصد الفريضة الآكدة في هذا الوقت بالذات، للأسباب الداعية إليها. وقد تكون هناك فرائض أخرى آكدة غيرها، لكن تلك التي نسميها فريضة الوقت هي آكدهم. وتحمل جملة (فريضة الوقت) كذلك إشارة إلى أن هذه الفريضة ربما تكون غائبة، أو يكون هناك إنكار لها وهجوم عليها، كما هو الحال في حديثنا هذا، عن فريضتنا، من العمل السياسي الإسلامي.
فالعمل السياسي الإسلامي موجود، منذ حين، لكنه في الآونة الأخيرة، أصبح مهاجَما من الكثيرين، وأعجب ذلك الهجوم وأنكره ما أصبح يحدث من أبناء التيار الإسلامي نفسه.
فهناك بعض الأصوات الإسلامية التي أصبحت تتحدث عن أن إشكالية الحركة الإسلامية هو انغماسها الزائد في السياسة وصراعها على السلطة.
فإن كانوا يقصدون بالانغماس الزائد في السياسة، ذلك الانغماس الذي يجور على أبعاد العمل الإسلامي الأخرى، الدعوية والتربوية والاجتماعية، فهم مصيبون.
وإن كانوا يقصدون بالانغماس الزائد، مجرد العمل السياسي، ويريدون من وراء ذلك الانخلاع التام منه، والإنكار التام له، فهم مخطئون واهمون، أو مضللون، أو مستأجرون.
فالعمل الإسلامي السياسي هو من أهم ما يجب أن تجتهد فيه الحركات الإسلامية، فما مصيبتنا الكبرى في عالمنا العربي والإسلامي إلا في حكامنا، وكل مصائبنا الأخرى إما بفعل إيجابية هؤلاء الحكام في إيجادها، أو بفعل سلبيتهم في محاربتها وإنكارها.
ومن العجائب أيضا التي بدأ ينادي بها بعض الإسلاميين، أن تبتعد الحركة الإسلامية عن المنافسة والصراع على السلطة، وهم في هذه لا يعرفون ما يقولون، أو لا يعرفون فكرتهم الإسلامية، التي قامت عليها حركتهم.
فالحركة الإسلامية قامت على فكرة أن منهج الله عز وجل قد جاء ليحكم حركة الإنسان في كل مناحي حياته الفردية والجماعية. ولذلك، فمن الواجب أن يصل منهج الله للحكم، حتى يحكم الحياة الجماعية للناس. ولن يصل المنهج الإسلامي للحكم إلا بمن يحملونه من الإسلاميين، وبالتالي فسعي الإسلاميين للوصول إلى كراسي الحكم هو من البديهيات التي لا تحتاج إلى جدال وخلاف.
وإذا كانوا يقصدون، أن تتفرغ الحركة الإسلامية ككيان، للعمل الدعوي والتربوي والاجتماعي، ثم تترك العمل السياسي للأحزاب..... فإنا نقول لهم: إذا لم تكن للحركة الإسلامية حزب تنافس به على السلطة فلا جدوى من وجود الحركة بالكلية، والعمل التربوي والدعوي لا يحتاج لحركة وتنظيم بالضرورة، وهناك تيارات إسلامية غير منظمة تقوم بالتربية والدعوة، ربما أفضل من الحركة الإسلامية المنظمة.
وإذا انفصل الحزب الإسلامي عن الحركة الإسلامية بالكلية، فهي هي، ولا داعي للحركة حينها.
الحركة الإسلامية المنظمة قامت على فكرة العمل السياسي، وهي أهم فكرة قامت عليها، ولا وجود للحركة الإسلامية المنظمة إلا بالعمل السياسي الإسلامي، ولا داعي لها حينها، ولا وجود كذلك لعمل سياسي إسلامي إلا بحركة إسلامية سياسية، أو بحزب سياسي إسلامي مرتبط بالحركة، أو بحزب سياسي إسلامي تحولت فيه الحركة الإسلامية بالكلية إلى حزب، يهتم بالعمل السياسي الإسلامي، ويترك العمل التربوي والدعوي لغيره، كما هو الحال في تجربة تونس.
في إمامة الصلاة، يأثم الأقدر عليها، إن تأخر وتركها لمن لا يحسنها، فما بالنا بإمامة الأمة، التي تُعنى بتطبيق منهج الله في كل مناحي الحياة؛ السياسية والاقتصادية والتعليمية وغيرها.
إن الأقدر لإمامة الأمة ممن يحملون منهج الله، لهو من أكبر الآثمين إن تركها لأولئك العملاء والسفهاء.
قال لي يوما أحد الأصدقاء السلفيين: إن ما حدث، من ثورات عربية، وانقلابات عليها، ليؤكد تأكيدا يقينيا على أن المنهجية الإسلامية الصحيحة هي التي تسعى للإصلاح من القاعدة، حيث الدعوة والتربية، وتأجيل محاولات إصلاح الرأس الحاكم إلى حين.
فقلت له: بل إن الذي حدث، ليؤكد تأكيدا يقينيا صارخا على ضرورة السعي لإصلاح الرؤوس الحاكمة أو اجتثاثها، فإنّ فعلها في إفساد الأمة في كل المناحي، لا تقف أمامه محاولات الإصلاح، ولو استمرت المعركة على هذا النحو لآلاف السنين.
لو استمرت المعركة هكذا، بين أنظمة حاكمة تفسد بما في يديها من قوة السلطان ووسائل الإفساد، مع دعاة ومصلحين يسعون لإصلاح ما تفسده، فإن الأمة لن تتأهل يوما للحكم بشريعة الله كما يتوهم المتوهمون، بل ستزداد بعدا عن منهج الله يوما بعد يوم في كل مناحي حياتها، فإن معاول الهدم أكبر تأثيرا من أيادي البناء، فكيف وهي معاول هدم في يد حكام، لهم السطوة والنفوذ والقدرة.
الناظر لحال عموم الناس في بلادنا العربية والإسلامية، سيجدهم يبعدون عن منهج الله في كل صغيرة وكبيرة يوما بعد يوم، وسيزداد بعدهم أكثر وأكثر، بفعل عوامل الإفساد، التي تصنعها الأنظمة الحاكمة، وتحميها وتنشرها.
علق أحد الدعاة على حالة الفقر والعوز الموجودة في بلد عربي، فقال:
إن حدثوك عن الأرزاق فحدثهم عن الرزاق.
وتلك كلمة حق، لكنها في هذا التوقيت الذي تقال فيه، ربما يراد بها الباطل، حيث تسكين الناس، وصرفهم عن طلب حقوقهم، والثورة على سارقيهم.
أما نحن فنقول: إن حدثوك عن الأرزاق، فحدثهم السّراق.
الذي سرق الأرزاق، وأحوجنا إلى الدَّين من كل جهات العالم، ليتحكم فينا الدائنون، ويزدادوا إذلالا لنا، واستنزافا لثرواتنا، لسداد فوائد الديون التي لا تنتهي.
بات حكام العرب والمسلمين أصناماً تُعبد من دون الله عند الكثير، وإن الله واحد أحد لا يرضى بشريك معه، فإما أن يخضع الحكام لله الواحد الأحد، ويسيروا في الناس بمنهج الله وسنة رسوله، وإما أن نزاحمهم على كراسي الحكم حتى ننتزعها منهم، بالعمل السياسي الديمقراطي الدستوري، فإن أبوا فيجب علينا أن نسعى لخلعهم وإبعادهم بالثورات السلمية عليهم، على أن لا تجرنا الثورات السلمية لحروب أهلية دموية.
هذا هو منهج الحركات الإسلامية السياسية، وهو المنهج الذي وضعه مؤسسها وعرّابها الإمام حسن البنا، وهو المنهج الذي لا يجب أن تحيد عنه الحركات الإسلامية أبدا، فهو سبب وجودها، وأساس بنائها، ولا وجود لها بغيره، ولا تحتاج الأمة في واقعها الراهن لشيء مثلما تحتاج له.