الفرق بين استحضار نية وتدقيق النية الحاضرة

الرئيسية » خواطر تربوية » الفرق بين استحضار نية وتدقيق النية الحاضرة
poem-approach-approach-to-ahmed-shawky

عندما يكون الكلام على النية، فأول ما يخطر للبال وما جرت عليه ممارسات المسلمين أنّ استحضار النية يعني استدعاء المثوبات الشرعية الممكن رجاؤها في العمل الذي سيُقبِل عليه. وهذا لا بأس فيه، ومما يجب أن يتعلمه كل مسلم فضائل الأعمال وثوابها.

لكن ثَمَّة وجه آخر لا يقلّ أهميّة ولعلّه أَوْلى ترتيبًا، وهو نظر العامل في نيّته الشخصية أولًا ثم عرضها على ميزان الشرع، ثم يضيف ما شاء مما يستحضر.

وأهمية هذا الترتيب هو أنك ما لم تُسَمّ نيتك الحقيقية باسمها من البداية، فلن يمكنك تقييم موقفك ولا تقويم مقاصدك، ولن ينفعك كسوة نيتك الأصلية بأقنعة شرعية؛ لأنك ستقع في تدليس على نفسك وحَيْرة من أمرك، بل ربما حتى تجاوزٍ لحدود الشرع الذي ترجو ابتغاءه.

 

ما لم تُسَمّ نيتك الحقيقية باسمها من البداية، فلن يمكنك تقييم موقفك ولا تقويم مقاصدك، ولن ينفعك كسوة نيتك الأصلية بأقنعة شرعية

من ذلك مثلًا، الانخراط في مختلف الأجواء الجماعية من أنشطة طلابية ومبادرات تطوعية وأعمال خيرية تحت مسمّى نفع الناس وخدمة المسلمين، بينما صاحبها ينتشي حقيقة ببريق القيادة والاجتماعات، ولمعة الاشتهار وسط الأصحاب، ونجومية التصدر بين الأقران، وانقضاء اليوم على خير ليرتمي في السرير قرير العين!

وإذا كانت تلك الأجواء الجماعية تضمّ الجنسين - خاصة في بواكير الشباب، حين يجتمع فوران الشهوة مع خفة العقل وضعف العلم وهشاشة الوجدان وهُلاميّة الضوابط - فمن الوارد جدًا أن يكون تطلّع المشاركين فيها على الحقيقة للَذّة أجواء الخلطة وجاذبية الحُظوَة لدى الجنس الآخر عامة، وهذه لذّة أكيدة وجاذبية غريزية.

مثل هذه الإشكالات سيستعصي على صاحبها حلها، وستطول معاناته الداخلية فيها وتخبطه الجُوّانيّ بسببها؛ لأنه ببساطة لا يرى مكمن الإشكال بسبب الغشاوة التي نشرها على عين قلبه، فهو محتار بين ظاهر العمل لله تعالى وباطن البعد بسببه عن الله تعالى!

 

لا حرج على المسلم ولا داعي لتهرّبه من حقيقة ابتغائه لمصالح حياتية وحاجات معيشية، فلا بشر يمكنه أن يتجرّد بالكليّة من تلك الضرورات

بل ولعله يزداد تفريطًا فيما هو أَوجب وأَوْلى كلما ازداد اشتغالًا بما هو أحلى وأمتع، ولا يفهم سرّ تضارب المعادلة مع أنه طالب لله تعالى في ظنّه!

ومن جهة أخرى، لا حرج على المسلم ولا داعي لتهرّبه من حقيقة ابتغائه لمصالح حياتية وحاجات معيشية، فلا بشر يمكنه أن يتجرّد بالكليّة من تلك الضرورات.

ومن النوايا المشروعة قصد الكسب الحلال لكفاية النفس بالأساس ثم من يلي، وهذا لا يتطلب إلا تخير مهنة توافق مهاراتك، أو احتراف مهارات المهنة التي تكسب منها.

ثم هَب أن الله تعالى أكرمك بمهنة لا تتكسّب منها فحسب بل تجد فيها "رسالتك" وما في معناها، فإذا لم تكن منتبهًا من البداية لنيتك الأصلية ومشروعيّتها، ستصل على المدى لمفترق تشعر فيه بذنب التقصير حين ينتفي ذلك الشعور بالرساليّة من العمل لسبب ما لكنك ما تزال تحتاج للكسب منه.

أو تصل لمفترق آخر تجد فيه الرسالية مستمرة، لكن مقدار الكسب لم يعد كافيًا لك، فتبدأ أزمة تساؤلات: هل أستمر في العمل لأجل المال فقط؟ هل أضحي بالرسالة لأجل المزيد من المال؟ أيهما أولى: المال أم الرسالة؟

لا داعي لتحجير قصد الرسالية في نفس المسار، فأرض الله واسعة. وكلّ هذه الموازنات لا تُخرج العبد من سَعَة ابتغاء وجه الله تعالى ولا تنفي صدقه

ومكمن الأزمة على الحقيقة في ذلك الموقف هو الخلط بين حاجتك العينيّة للمال من المهنة (وهذا غرضك الأصلي منها)، وحاجة الرسالة الكفائية لك في تلك المهنة (وهذا غرض مضاف يمكن أن يتحقق من مسارات أخرى غير المهنة)

وإذ ذاك لا إشكال في التنقل بين المهن بحسب حاجة الكسب، ولا حرج في المهنة بغرض الكسب، سواء وجدت رسالتك فيها أم لم تجد، ولا داعي لتحجير قصد الرسالية في نفس المسار، فأرض الله واسعة. وكلّ هذه الموازنات لا تُخرج العبد من سَعَة ابتغاء وجه الله تعالى ولا تنفي صدقه، بدليل أنه لو وُضع في سياق كانت الحاجة لمهاراته فيه حاجة شرعية عينية لقام بما عليه من واجب، بغض النظر عن قدر الكسب منه، بل حتى ولو لم يكن يتكسب منه.

والخلاصة أنّ العلم بحدود الشرع من الحلال والحرام والمكروه والمستحب والمباح، مع الشفافية الصدق في تسمية مقاصد النفس، كلاهما لازمان لسداد الاختيارات ورشد القرارات، وطيب الحياة عامة.

وفي المقابل، وبال تدليس النية عائد على صاحبه ولا يخادع به إلا نفسه، والإشكال ليس في أن يكون للنفس حظوظ، وإنما في تلبيس صاحبها على نفسه ليس إلا، فالله تعالى لا تخفى عليه خافية، وهو سبحانه عليم بذات الصدور.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …