سلوى المطاردين من سيرة سيد المرسلين

الرئيسية » بصائر تربوية » سلوى المطاردين من سيرة سيد المرسلين
5554934-madina-pictures-wallpaper

إن الإنسان المُطارَد سلواه الوحيدة وسط الأجواء المُضطربة، والأمواج الهائجة، واللهيب اللافح، والصقيع القارس، أنه يسير على درب مُوحش قد قل سالكوه وهو درب الأنبياء والصالحين ومن على شاكلتهم إلى يوم الدين.

وسلوى المطارد أن ما يحدث له إنما هو سُنة من سُنن الدعوات؛ فقد طورد أولو العزم من الرسل وكل أنبياء الله عليهم السلام!

وسلوى المطارد أنه موصول بالله تعالى ويثق تمام الثقة أنه في معية الله تعالى وأن تضحيته مأجورة ومنزلته عند الله تعالى مرفوعة!

وسلوى المطارد أن الباطل إلى زوال وأن وعد الله تعالى بنُصرة أوليائه كائن لا محالة.

وسأستعرض بعض المواقف من هجرة النبي ﷺ لتكون معالم على طريق المُطاردين، وأنيساً لهم في وحشتهم، وداعية لهم لمواصلة التضحية، ودافعة لهم للثبات.

1. الاستعداد النفسي والمادي والتعفف عما في أيدي الغير

جاء في السيرة النبوية لابن هشام: "وكان أبو بكر كثيراً ما يستأذن رسول الله ﷺ في الهجرة، فيقول له رسول الله ﷺ: "لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً" فيطمع أبو بكر أن يكونه.

وعندما أذن الله تعالى لنبيه ﷺ بالهجرة توجه إلى بيت الصِّديق رضي الله عنه ليكون رفيق دربه.

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ"، هذا بالنسبة للاستعداد النفسي.

أما عن الاستعداد المادي فقد اشترى أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - راحلتين، فاحتبسهما يعلفهما استعداداً للهجرة.

وأما بالنسبة للتعفف، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: "فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ". قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "بِالثَّمَنِ"، وإن هذا درساً واضحاً لحَمَلَة الدعوة أنه لا ينبغي للداعية أن يكون عالة على أحد في وقت من الأوقات، فالداعية مصدر العطاء في كل وقت وفي كل شيء.  

قاعدة: إن كنت تنتظر من إخوانك أن يؤثروك ويعطوك، فهم ينتظرون منك الترفع والعفة، ويدك إن لم تكن العُليا فلا تجعلها السفلى.

إن كنت تنتظر من إخوانك أن يؤثروك ويعطوك، فهم ينتظرون منك الترفع والعفة، ويدك إن لم تكن العُليا فلا تجعلها السفلى

2. اتخاذ صُحبة من الثقات لتكون مُعينة على نوائب الدهر

لقد اتخذ النبي ﷺ أبا بكر -رضي الله عنه- خليلاً فكان نعم الرفيق الذي يسير مرَّة عن يمين النبي ﷺ ومرَّة عن شماله ليفتديه بنفسه، وقد انتدب النبي ﷺ علياً -رضي الله عنه- لينام في فراشه فلم يتقاعس وهو يدرك حجم الخطر والهلاك الذي يُعرِّض نفسه له! وكُلفت السيدة أسماء بتأمين الزاد وضُربت على وجهها حتى تطاير القرط من أذنها فلم تفش سِرَّاً ولم تنبس ببنت شفة.

من هنا نفهم أنه لا بد وأن يكون حول كل داعية من الصُّحبة من يُجيد هذه الأدوار، فلا يُفشي سراً لحبيب فيُحمِّله ما لا يطيق ولا لعدو فيُشمِّته في الدعوة، ولا يخذل صاحبه في موقف هو أحوج ما يكون فيه إلى النُصرة.

قاعدة: كلما كان عدد الثقات في مثل هذه الأمور قليلاً والمهام واضحة كلما كان هناك توفيق وسداد.

3. أهل الباطل يُسَخِّرون كل إمكانياتهم للبطش بأهل الحق

هذه قريش تجتمع في دار الندوة لتفكر كيف تفتك بمحمد ﷺ، ويُوحي لهم الشيطان أن يجمعوا من كل قبيلة شاباً جَلداً للفتك به ﷺ، وعندما أبطل الله كيدهم: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9] لم يتوقفوا عن الكيد والمكر بل رصدوا مُكافأة لا مثيل لها ولم تسمع بها العرب من قبل لمن يأتي به ﷺ حياً أو ميتاً.

اعلم -أيها الداعية المُطارد- أنك غال عزيز على دعوتك، وكذلك معارضوك يعدونك صيداً ثميناً وإلا ما أجهدوا أنفسهم هذا الجُهد وكلفوها هذا العناء المادي والمعنوي ليصلوا إليك، واعلم -أيها الداعية المُطارد- أن وجودك يقضّ مضاجع أهل الباطل ويُزلزل عُروشهم، ولن يترددوا لحظة واحدة في أن يتخلصوا منك، وهم على استعداد لخرق كل القوانين والأعراف لتحقيق غايتهم الدنيئة.

واعلم - أيها الداعية المُطارد - أن حفاظك على نفسك مكسب لك ولدعوتك وغيظ ومكيدة للطغاة البُغاة فاحرص على ذلك.

اعلم - أيها الداعية المُطارد - أن حفاظك على نفسك مكسب لك ولدعوتك وغيظ ومكيدة للطغاة البُغاة فاحرص على ذلك

4. مُراعاة الجانب النفسي للأهل ولرفاق الدرب

تقول السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: "لما خرج رسول الله ﷺ وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه: خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم، فانطلق بها معه، فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: "والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه"، قلت: "كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً"، قالت: وأخذتُ أحجاراً فوضعتها في كُوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده فقلت: "يا أبت ضع يدك على هذا المال"، قالت: فوضع يده عليه فقال: "لا بأس، إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم"، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك".

قاعدة: يجب عليك - أيها الداعية المُطارد - أن تكون في تضحيتك صابراً مُحتسباً فلا تُكثر التشكي، ولا يصل لأهلك وأحبابك عنك إلا كل ما يبعث على الثبات والطمأنينة وإيقاظ الهمَّة  ، وليصل أهلك وأحبابك عنك دفء الأنس بالله، ولطفه بك، وحفظه لك، فتقر أعينهم وتذهب لوعتهم وتزداد بشارتهم.

5. ثق بمعية الله تعالى وتسخيره لجنود لا تراها ولا تتوقعها

من كان يتوقع يوماً أن يكون أبو جهل مُدافعاً عن حُرمة بيت محمد ﷺ ومانعاً للمشركين أن يقتحموا البيت ليلاً فيُفزِّعوا بناته وزوجاته ﷺ؟! لكن منعَه خوف العار وسُبّة النّاس له (الرأي العام)، ومنَعَته منظومةُ القيمِ التي كانت سائدةً في ذلكَ المجتمعِ برغمَ غرقِهِ في جاهليَّةٍ جهلاء.

ومن كان يظن أن سُراقة بن مالك الذي سال لعابه ليفوز بالجائزة التي رصدتها قريش لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً، سيعود مُنكباً على وجهه بعد أن رأى آيات الله عز وجل، وبعد أن بشَّره النبي ﷺ بسواري كِسرى، فعاد أدراجه يُعَمِّي من يطاردون النبي ﷺ للفتك به.

ومن كان يعتقد أن الله تعالى سيُسخر عبد الله بن أريقط –وقد كان على الشرك- هو الذي سيتولى توصيل الراحلتين إلى النبي ﷺ وصاحبه رضي الله عنه عند غار ثور بعد ثلاثة أيام.

6. عدم التخلي عن الدعوة في أحلك الظروف

إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شِغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى، مهما كانت الظروف قاسية، والأحوال مُضطربة، والأمن مفقود، بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى.

ذكر ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- قال: "إن النبي ﷺ في طريق هجرته إلى المدينة لقي بُريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، فدعاه إلى الإسلام، وقد غزا مع الرسول ﷺ ست عشرة غزوة وأصبح بُريدة بعد ذلك من الدعاة إلى الإسلام وفتح الله لقومه أبواب الهداية على يديه، واندفعوا إلى الإسلام وفازوا بالبشارة النبوية التي نتعلم منها منهجاً فريداً في فقه النفوس حيث قال ﷺ: "أسلمُ سالمَها اللهَ، وغِفارٌ غفرَ اللهُ لها، أما واللهِ ما أنا قلتُه، ولكنَّ اللهَ قاله" [الجامع الصغير].

وفي طريق الهجرة أسلم لصان على يدي رسول الله ﷺ: كان في طريقه ﷺ بالقرب من المدينة لِصَّان من قبيلة أسلم يُقال لهما المُهانان، فقصدهما ﷺ وعرض عليهما الإسلام فأسلما ثم سألهما عن أسمائهما فقالا نحن المُهانان، فقال: بل المُكرمان، وأمرهما أن يقدما عليه المدينة.

قاعدة: إن الدعوة بالنسبة للداعية هي الروح التي تسري في أوصاله فلا قيمة له بدونها، وبقدر عطائه لهذه الدعوة بقدر الدفء الذي يشعر به، وبقدر انشراح الصدر وطمأنينة النفس.

إن الدعوة بالنسبة للداعية هي الروح التي تسري في أوصاله فلا قيمة له بدونها، وبقدر عطائه لهذه الدعوة بقدر الدفء الذي يشعر به، وبقدر انشراح الصدر وطمأنينة النفس

7. الرحب والسعة أشد وقعاً على المُطارد من الضيق والقهر

إذا منَّ الله تعالى على المُطارد بالأمن والاستقرار ورغد العيش فليعلم أن ذلك اختباراً من الله -عز وجل- فلا تغره الدنيا وزينتها، ولا يُكثِر من حطامها، ولا يُنافس طلابها، بل عليه أن يُكثِر من شُكر الله تعالى على هذه النعمة، وليُضاعف عطاءه للدعوة.

عندما وصل النبي ﷺ إلى المدينة قام بوضع أسس بناء مجتمع إسلامي لا غنى لأي مجتمع عنه إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.

  • أصلح النبي ﷺ بين الأوس والخزرج للحفاظ على لُحمة المجتمع قوية وليتخلى الجميع عن نزعة الجاهلية.
  • آخى النبي ﷺ بين المُهاجرين والأنصار للحفاظ على قوة الروابط الاجتماعية، وليعلم الجميع أن رابطة الأخوة في الله أقوى من غيرها من الروابط.
  • اختار النبي ﷺ مكاناً مُناسباً لبناء المسجد لتقوية الجانب الإيماني، فالمسجد هو السِّياج الذي يحفظ للأمة الإسلامية هويتها .
  • أسس النبي ﷺ سُوقاً لضمان قوة الجانب الاقتصادي حتى لا يتسول المسلمون قوتهم من غيرهم.
  • وضع النبي ﷺ دستور المدينة الذي يضمن تنظيم العلاقات والمعاملات في ضوء ما جاء به الشرع الحنيف.

إن ما فعله النبي ﷺ كان مجهوداً مُضنياً لا راحة فيه، وعملاً شاقاً لا تطيقه إلا الأنفس التواقة لرضا الله تعالى.

قاعدة: إياك ثم إياك -أيها المطارد- أن تركن للراحة والدعة، لا تجعل الهموم تتناوشك وتشتت ذهنك وتبدد طاقتك، ولا تحزن على ما فاتك من حُطام الدنيا الزائل، لا تحمل هماً لم ينزل بك، ولا تتمنى ما لا تملك، ولا تبن بخيالك قصوراً لست بساكنها، ولا تفن طاقتك في جمع مال لست بمُنفقه.

واعلم - أيها المطارد - أن مشيئة الله تعالى هي الغالبة، وما قدَّره الله تعالى هو الكائن لا محالة، فاسأل الله الإخلاص والثبات.

أخيراً أقول:

إن الهجرة لم تكن فراراً من الابتلاء بمكة، ولا بحثاً عن الراحة والدعة بالمدينة، ولكنها أولاً وقبل كل شيء كانت استجابة لأمر الله تعالى ونصرة لدينه.

والهجرة لم تكن فراراً من الجهاد، وإنما كانت إعداداً لأعبائه.

والهجرة لم تكن خوفاً من الأذى، و لكن توطيداً لدفعه.

والهجرة لم تكن جَزَعاً من المحنة، ولكن توطيناً للصبر عليها.

والهجرة لم تكن فراراً من القَدَر، ولكنها كانت فراراً إلى القَدَر.

وأقول: إن دروس الهجرة قد صحَّحت لنا مفهوما ظل غائباً عنا ردحاً من الزمان وهو أن الداعية بما يحمله من فهم وإخلاص وتضحية وثبات وتجرد (مُطارِد) وليس (مُطارَد)؛ فهو الذي يطارد الأعداء في نومهم ويقظتهم، وفي سكونهم وحركتهم، فلا يسعدون بعيش مهما امتلكوا ولا يهنؤون بأمن مهما تحصَّنوا.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …