أيًّا كانت مآلاتها، وأيًّا كانت أبعاد عملياتها، إلا أنه يمكن القول بكل اطمئنان، إن تجربة "عرين الأسود" في الضفة الغربية، واحدة من أهم المحطات التي مرَّت بها المقاومة الفلسطينية المسلحة في السنوات الأخيرة.
وتعود أهمية التجربة إلى طبيعتها، وإلى الأثر الذي أحدثته على صعيد معادلة العلاقة بين المحتل الصهيوني وبين الشعب الفلسطيني، فيما يتعلق بمفاهيم العمل المقاوِم، في الضفة الغربية التي تُعد أحد أعمدة الأساس في المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.
فلو أننا تأملنا طبيعة التجربة سوف نجد أننا أمام إطار تنسيقي مهم بين عدد من الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية على الأرض، مما كسر الجمود القائم على المسارات السياسية بين الفصائل، والذي عطَّل كثيرًا صيرورات المقاومة الفلسطينية في السنوات الماضية.
والأمر يشبه في هذا، غرفة العمليات المشتركة الموجودة في قطاع غزة، والمسؤولة عن تنسيق العمل المسلح ضد الكيان الصهيوني الذي ينطلق من القطاع، بناء على رؤية القادة السياسيين، بما يشبه هيئة الأركان المشتركة في جيوش الدول، والتي هي مسؤولة عن تحريك القوات، بناء على توجيه من القيادة السياسية للدولة.
ولو وضعنا في الاعتبار أنه بكل تأكيد لا تتراصف الصورة بنفس الدرجة بين السياسيين، سوف نفهم أهمية ما فعله مجاهدو "عرين الأسود"، ورسخوه، والذي حظي بتأييد شعبي جارف، أدى إلى دخول قوات الاحتلال الصهيوني في حرب مفتوحة مع المدنيين في جنين ونابلس وغيرها من مناطق الضفة الغربية.
ولا يقف الأثر عند هذه الجزئية؛ فقد امتد إلى منطقة مهمة حاول الكيان الصهيوني اللعب عليها طيلة العقود الماضية، وهي شطر الصف الفلسطيني، وإدخال الفلسطينيين في صراعات أهلية تشغلهم عن قضاياهم الأساسية، على رأسها الأرض واللاجئين.
فالمُلاحظ أن المجموعات التي من هذا النوع وبدأت تظهر بشكل فردي وجماعي منذ سنوات قريبة في الضفة الغربية، بدأت في انتهاج نهجٍ مهم، كان له أثره الملحوظ في تغيير موقف أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي تُعد أحد أهم معوقات العمل المقاوِم في الضفة الغربية، وداخل الكيان الصهيوني نفسه.
شملت الآليات التي عملت بها هذه المجموعات ومقاتلوها، آلية مهمة، تغرس في نفوس عناصر أمن السلطة، أنهم أقرب إلى المقاومة الفلسطينية منهم إلى الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية التي تتولى التنسيق الأمني معها، وهي تسليم أنفسهم، وتسليم أسلحتهم إلى أجهزة الأمن الفلسطينية.
هذا الأسلوب، له أثر نفسي عميق بأكثر مما يتصور البعض؛ فهو يعني أن المقاتل الفلسطيني العامل ضد الكيان الصهيوني الذي اعتاد أن يجد أمانه وسط أهله، وفي المناطق التي ينتمي في الأصل إليها، يجده أيضًا لدى أجهزة الأمن الفلسطينية، باعتبار أنهم "منه ومن أهله".
وبالفعل؛ تطالعنا التقارير الأمنية والإعلامية الصهيونية في الأشهر الأخيرة، عن كثير من الحالات التي اعتقل فيها ضباط وعناصر من أجهزة الأمن الفلسطينية، و"اتهموا" بدعم المقاومة الفلسطينية.
وبطبيعة الحال؛ فإن هذه الجبهة (جبهة الأجهزة الأمنية الفلسطينية) أوسع بكثير من هذا السياق، لكنه من المهم أن نفهم حقيقة عمرانية، وهي أن كل شيء يبدأ صغيرًا، وينمو ويَكبُر بالتراكم، وما نهض بنيانٌ إلا بعد وضع أساساته، والتي تبدأ بحجر أساس واحد.
وهنا نصل إلى نقطة ذات أهمية، وهي المقاومة الشعبية، والتي تعتمد على إطلاق المبادرات الفردية حتى وإن كانت في قالب فصائلي في بعض الأحيان.
فمجموعات مثل "عرين الأسود"، تُعد امتدادًا لتجربة أخرى ظهرت في العام 2021م، وهي "كتيبة جنين" التي بدورها ظهرت إثر عملية "نفق الحرية" التي نجح فيها ستة من الأسرى الفلسطينيين من الهروب من سجن "جلبوع" الصهيوني من خلال نفق، في سبتمبر من العام 2021م.
قبلها كانت معركة "سيف القدس" التي وقعت في مايو 2021م، بدورها نتيجة صمود أهل حي الشيخ جراح والمقدسيين في وجه إجراءات الاحتلال الصهيوني، هذا الصمود الذي على إثره شَنَّ الكيان الصهيوني عدوانًا إجراميًّا جديدًا على قطاع غزة.
وفي "سيف القدس" بالذات، نجد أن المقاومة الشعبية العفوية كانت خلف إشعال الموقف الذي بدَّل السياسات الصهيونية كثيرًا في عهد حكومة الثنائي لابيد – جانتس؛ عندما عمدت إلى تجديد طرح مفاهيم ما يُعرَف بالسلام الاقتصادي لمعالجة الإشكال الخاص بقطاع غزة، وتجميد الكثير من قرارات الطرد لأهالي الشيخ جراح، والكثير من الأمور الأخرى.
ولكي نفهم بعض معالم تجربة "عرين الأسود"، وأهميتها؛ نقرأ ما كتبته عنها صحيفة "معاريف" الصهيونية المعروفة بأنها من مؤيدي تيار اليمين الصهيوني؛ فقد حددت عناصر التهديد في مجموعة "عرين الأسود"، وصعوبة مواجهتها من جانب الجيش والاستخبارات الصهيونيَّيْن، في أنها تملك "منظومة صعبة للغاية بالنسبة للمنظومة العسكرية والاستخبارية؛ لأنها على عكس المنظمات القائمة والمعترف بها، فهي تُشكل مفهومًا جديدًا وغريبا من ناحية اتّساع نطاقها. ولأن المجموعة لا تعمل تحت راية معينة، وهي تسعى إلى قيادة خط وطني (فلسطيني) جديد ضد "إسرائيل".
وأيًّا كان تقييم الوضع، ومستقبل مثل هذه النوعية من صور المقاومة الفلسطينية، فإنه، وبكل تأكيد، لن تنسى الذاكرة النضالية الفلسطينية والعربية والإسلامية، أسماء مثل جميل العموري، ومحمد العزيزي، وعبد الرحمن صبح، وتامر الكيلاني وديع الحوح.. رحم اللهُ تعالى جميع شهدائنا.