من معاني الابتلاء التي يعرفها الجميع، كون الابتلاء مكفرًا للذنوب ورافعًا للدرجات، وذلك للإنسان المؤمن، ولكن هناك معنى مهماً في فلسفة الابتلاء، ربما لا يفطن إليه البعض، أو لا يعيرون له اهتمامًا، وهو أن الابتلاء من أكثر ما يهدي الناس إلى الله، ويدفعهم ليلجؤوا إليه؛ بسبب حاجتهم إليه سبحانه، إلى حدٍ نستطيع أن نقول معه: لولا الابتلاءات لضل أكثر الناس.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]، وقال تعالى في الآية التي بعدها: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43] إذاً فأول مهام الابتلاء/ أن يرجع المبتلى إلى الله ويتضرع إليه، وتأتي بعد ذلك ثاني المهام/ بتكفير الذنوب ورفع الدرجات مع الصبر والرضا والتسليم.
والابتلاء هو كتابٌ كتبه الله على بني آدم في هذه الدنيا، منذ أن نزل أبوهم آدم - عليه السلام - بسبب ذنبه إليها، ولا يسلم من الابتلاء لا مؤمن ولا كافر، ولا غني ولا فقير، ولا مهتد ولا ضال، الكل يبتلى، والكل يجازى على عمله حال ابتلائه، فإن رضي فله الرضا، وإن سخط فله السخط.
عندما ندخل المساجد، ونجدها ممتلئة بالناس، فإن اليقين أن أكثرهم ما جاء إليها إلا والابتلاءات تسوقه إلى الله ليتضرع إليه ليصرف عنه ما به، فالآخرة غائبة كثيرًا عن فكر الناس وسلوكهم، والدنيا هي المسيطرة عليهم، وهذا هو حال أكثر الناس، إلا من رحم الله منهم، ومن ذلك، نجد لجوءهم إلى الله، هو في أكثره من أجل الدنيا، إما للطلب من خيرها أو للاستعاذة من شرها، والأكثر في ذلك للاستعاذة من الشر، فإن ألم وجود الشر في الدنيا أشد من ألم فقد الخير.
وليخف ذلك الإنسان الذي يأتيه مثل ذلك الصمت الابتلائي، فإنه صمت مخيف، يُخشى ما وراؤه، وعليه حينها بمداومة العبادة والذكر والصدقة والدعاء، فإن الله يرد بذلك كثيرا من قضائه
ومن معاني الابتلاء الأكيدة - والتي رأيناها في حياتنا رأي العين - أن الإنسان إذا غابت عنه الابتلاءات فترة فليخف وليتوجس، فإن الابتلاءات تشبه الأسد الضاري، الذي يتربص بفريسته، وتمر فترة من الصمت المخيف قبل الافتراس مباشرة، ثم يهبُّ الأسد إلى الفريسة فلا تكاد تنجو منه.
وليخف ذلك الإنسان الذي يأتيه مثل ذلك الصمت الابتلائي، فإنه صمت مخيف، يُخشى ما وراؤه، وعليه حينها بمداومة العبادة والذكر والصدقة والدعاء، فإن الله يرد بذلك كثيرا من قضائه.
كذلك، فإن الإنسان إذا أتته ابتلاءات صغيرة يستطيع تحملها، فإن عليه أن يحمد الله كثيرا، فإن الله يعافيه بمثل هذه الابتلاءات الصغيرة من الابتلاءات الكبيرة. وعليه كذلك إن أتاه ابتلاء كبير، لكنه استطاع في النهاية أن يتحمله، أن يحمد الله كثيرا؛ لأن ذلك عافاه من ابتلاء كبير ما كان ليتحمله.
ولقد رأينا بأم أعيننا ابتلاءات ذهبت بعقول أهلها، وابتلاءات ذهبت بإيمان أهلها، وعندما يذهب الابتلاء بالإيمان، فإنه يتحول حينها من كونه ابتلاء إلى كونه غضبا وسخطا من الله، يذهب بدنيا الإنسان وآخرته.
كما أن من معاني الابتلاء، أن الناس جميعا يبتلون، ولكن ليس بنفس الدرجة، كما أن الناس جميعًا يعيشون في نعم الله، ولكن ليس بنفس الدرجة.
وقد تحدث يوما داعية مشهور، حول معنى أن النعم يقسمها الله بالتساوي بين البشر، فمنهم على سبيل المثال: الغني الذي فقد العافية في مقابل الفقير المعافى، وهكذا.
وفي رأيي، أن ذلك المنطق ليس دقيقا، فالله يوزع النعم على عباده كما يشاء، وليس شرطا أن يوزعها عليهم بالتساوي، فإن أعطى هذا شيئا أخذ منه في مقابله، وإن أفقد ذلك شيئا أعطاه في مقابله.
الجميع يبتلون بابتلاءات الله، ولكن بدرجات متفاوتة، وليس شرطا التساوي، ولله في ذلك حكمة، كما أن الجميع يتنعمون بنعم الله، ولكن بدرجات متفاوتة، وليس شرطا التساوي، ولله في ذلك حكمة
وكذلك في الابتلاء، فليس شرطا أن يبتلي الله الناس جميعا بالتساوي: فهذا مبتلى في بدنه، وهذا مبتلى بفقره، وهذا مبتلى بولده، وجميعهم بنفس الدرجة في الابتلاء، وبنفس وقع الابتلاء على نفوسهم وأرواحهم.
الجميع يبتلون بابتلاءات الله، ولكن بدرجات متفاوتة، وليس شرطا التساوي، ولله في ذلك حكمة، كما أن الجميع يتنعمون بنعم الله، ولكن بدرجات متفاوتة، وليس شرطا التساوي، ولله في ذلك حكمة.
ومن معاني الابتلاء - التي فطن إليها بسطاء الناس من قديم عندما كانوا إذا ضحكوا بملء أفواههم يتوجسون ويقولون: اللهم اجعله خيرًا - أن الدنيا دار ابتلاء ومحنة، وليست دار سرور ومنحة، فإن أتت الإنسان يوما منحة عظيمة، أدخلت عليه سرورا وبهجة، فليفرح بنعمة الله وفضلة، ولكن فليتوجس مما بعدها، فإن الدنيا غالبا ما تعاجله بعدها بما يكدر عليه، إلا أن يعفو الله عنه ويلطف به، وعليه حينها أن يبادر بالحمد والشكر والذكر والدعاء، والصدقات والإحسان، ولن يرد قضاء الله كما قلنا مثل الدعاء والإحسان.
ومن معاني الابتلاء التي يجب أن ننتبه إليها كذلك، أن الله يبتلي الإنسان بذنبه وتقصيره، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79]
وبالتالي فإن أول ما على المبتلى أن يهرع إلى الله، ويبادر بالاستغفار والتوبة، ولذلك فإن الاستغفار لا تنحصر فائدته في أن يغفر الله به ذنب المذنب، ولكن من معاني الاستغفار المهمة جدا، أن الله يعافي من الابتلاء بالاستغفار من الذنب الذي كان سيبتلي بسببه ، وهذه هي سنة الله مع عباده المؤمنين، يذنب الواحد منهم، فيقدر الله عليه ابتلاء تكفيرا لذنبه هذا، فإن بادر العبد المؤمن بالتوبة من ذنبه والاستغفار فإن الله يرفع ابتلاءه عنه، فقد غفر له الذنب حينها بتوبته واستغفاره، ولا يحتاج حينها لابتلائه ليكفره عنه، وإن قعد العبد المؤمن عن التوبة والاستغفار، فإن الابتلاء واقع لا محالة.
وابتلاء الإنسان من الممكن أن يكون في نفسه أو في أهله وولده، ولذلك فكما قال الولي الصالح لابنه: إني لأطيل في صلاتي من أجلك (ويقصد بذلك أنه يطيل في عبادته رجاء أن تنزل الهداية والعافية والبركة على ولده جزاء لعبادته) فإن على كل عبد مؤمن، أن يكثر من التوبة والاستغفار يوميًا، رجاء أن يغفر الله ذنبه، وأن يعافيه من الابتلاء به، وأن تطال العافية نفسه وأهله وولده.
ومن الرضا الذي يرضاه الله عن عبده الراضي بقضائه أن يلطف به فيه ثم يعافيه منه، ومن السخط الذي يسخط الله به على عبده الساخط على قضائه أن لا يلطف به فيه وأن لا يعافيه منه
ومن معاني الابتلاء المهمة، أن المبتلى يزيد من ابتلائه بسخطه واعتراضه، ويكون سببًا في عافيته برضاه وحمده واستغفاره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله عز وجل إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" [رواه الترمذي وابن ماجه]
ومن الرضا الذي يرضاه الله عن عبده الراضي بقضائه أن يلطف به فيه ثم يعافيه منه، ومن السخط الذي يسخط الله به على عبده الساخط على قضائه أن لا يلطف به فيه وأن لا يعافيه منه.
وفي الأثر المشهور من الإسرائيليات، والذي يصح معناه، يقول الله تعالى لابن آدم: "... فإن رضيت بما قسمت لك، أرحت نفسك، وكنت عندي محمودا، وإن لم ترض بما قسمت لك، فوعزتي وجلالي، لأسلطن عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحوش في البرية، ثم لا يكون لك إلا ما قسمت لك، وكنت عندي مذموما"
والشاهد من الأثر، أن قضاء الله نافذ، سواء بالرضا من العبد أو بالسخط منه، ولا يبقى له بعد ذلك إلا الجزاء بالخير على رضاه أو بالشر على سخطه، ويبقى كذلك كما ذكرنا آنفا، اللطف حال الابتلاء ثم العافية منه إن كان الرضا، وجهد البلاء حال الابتلاء ودرك الشقاء بعده إن كان السخط.