عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال: "لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صعد النبي ﷺ على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فِهر، يا بني عُدي - لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم؛ أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك إلا صِدقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [صحيح البخاري]
وجاء في حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن النبي ﷺ قال لورقة بن نوفل: "أوَ مُخرجيّ هم؟ قال ورقة: نعم، لم يأت رجل بما جئت به إلا أوذي، وإن يُدركني يومك حيًا أنصرك نصرًا مُؤزرًا" [صحيح البخاري]
إن ما سبق يُذكرنا بما حدث مع أنبياء الله جميعًا، يذكرنا بما حدث مع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى - عليهم جميعًا من الله السلام - ويذكرنا بما حدث مع هود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم من الأنبياء والمرسلين - عليهم جميعًا من الله السلام - وإن ما حدث مع أنبياء الله من صد وإيذاء وطرد وإبعاد إنما يُبيِّن لنا أن مُطاردة الدعاة والمُصلحين سُنة ماضية إلى يوم الدين.
طِباع البشر واحدة تنبذ التكليف، وتفر من كل ما يُهذب فطرتها ويقوِّم شهواتها، وتميل إلى التفلت من كل قيد ولو كان في هذا القيد سلامتها ونجاتها
لمَ لا، وكل الرسالات قد نزلت من مِشكاة واحدة، ولمَ لا، وكل الرسالات هدفها واحد وهو نبذ كل ما يُعْبَد من دون الله تعالى، وتعبيد الناس لرب العالمين وحده لا يُشركون به شيئًا، ولمَ لا، وطِباع البشر واحدة تنبذ التكليف، وتفر من كل ما يُهذب فطرتها ويقوِّم شهواتها، وتميل إلى التفلت من كل قيد ولو كان في هذا القيد سلامتها ونجاتها، فتكون النتيجة أن تتعدد القِبلات وتتشعب الأهواء وتتشتت العقول وتضطرب القلوب ويهيم كل فرد أو كل جماعة في واد غير ذي استقامة لا يبلِّغ غاية ولا يهدي سبيلًا!
قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 52 - 55]، وقال تعالى: {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]
أولًا/ أبجديات الصراع بين الحق والباطل
علينا أن نوقن أن الصراع بين الحق والباطل له ملامح ثابتة لا تتغير مع تغير الأحوال والظروف ولا تتبدل مع تبدل الأعوام والأجيال ففي كل زمان (سامري) يصنع للناس (عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ) من الضلالات والشبهات يُضِلُّ به الأفهام ويشوّه به العقائد ويصرف به الناس عن الحق، وفي كل زمان (فرعون) يقول للناس (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، إن لم يقلها بلسان المقال قالها بلسان الحال.
يحصل ترويض للعوام حتى الوصول بالغالبية منهم إلى قمة الفسق ومنتهى الفساد، وحتى يُغيّب وعيهم للحد الذي يُعطل حواسهم وجوارحهم فتصيبهم البلادة فلا يُنكرون منكرًا ولا ينصرون مظلومًا
وأبجديات الصراع بين الحق والباطل تتمثل في:
- أن أهل الحق قلة مُستضعفة ضعيفة الشوكة ومصدر قوتها الوحيد هو إيمانها بربها وتمسكها بمبدئها.
- وأن أهل الباطل قلة مُستأسدة لا تنصاع للحق ولا ترحم أهله وتسخر كل إمكانياتها لكي تقضي على أهل الحق وتظل مُتصدرة المشهد.
- وأن كتلة العوام وهي كما يسمونها "الكتلة الرائجة" ضعيفة الجانب مهضومة الحق زلولة الظهر تنظر للمشهد وتترقب نتيجة الصراع لكي تحْمِل الفائز على الأعناق وتهتف له.
- مكانة المُصلح الحقيقية هناك عند الله في حياة أبدية وليست هنا في دنيا فانية.
- كتلة العوام يُغلبون على أمرهم حتى تخطف شموس الحق من بينهم فلا يكترثون، ويحصل ترويض للعوام حتى الوصول بالغالبية منهم إلى قمة الفسق ومنتهى الفساد، وحتى يُغيّب وعيهم للحد الذي يُعطل حواسهم وجوارحهم فتصيبهم البلادة فلا يُنكرون منكرًا ولا ينصرون مظلومًا ولا يحركهم سفك الدماء ولا يغارون على عرض يُدنس ولا على حرية تنتهك.
- معظم العوام يمارسون حياتهم بأريحية تامة وكأن كل ما يحدث أمامهم أمرٌ طبيعي، وكأن ضريبة الثبات على الحق من بديهيات حياة الدعاة والمصلحين وحدهم.
- الثابتون في صف الحق لا بد لهم من الابتلاء والتمحيص الذي ينقي أنفسهم من كل خبث ويطهر قلوبهم من كل شائبة ويطيب حواسهم وجوارحهم لتكون وعاء للعلم النافع والحكمة، حتى يُهذبوا تهذيبًا يليق بما أعده الله لهم من خيري الدنيا والآخرة.
- إن ما يدفعه الناس ثمنًا لطلب السلامة أضعاف ما يدفعونه لو أرادوا دفع المنكر ودرء الفساد ومقاومة الظلم، ولكنها النفس الأمارة بالسوء التي تقبل الضيم وترضى بالدون وتؤثر السلامة.
- إن مطاردة المصلحين وغيابهم وتغييبهم يمحق البركة من المجتمع حتى يصبح العوام كالأيتام على موائد اللئام وكالأغنام في الليالي الشاتية.
- أثبتت المحن والابتلاءات التي يتعرض لها الدعاة والمصلحون أن الأعمار ببركتها لا بطولها ومدتها، فأمهات الكتب خرجت من أقبية السجون، والدعاة والمصلحون عندما اجتازوا ما قدَّره الله لهم في المحن والابتلاءات خرجوا أصلب عودًا وأقوى عزيمة وأنجزوا في سنين ما ينجزه غيرهم في عقود، ولمَ لا، فالله تعالى يقول: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]
- إن الله تعالى يخلف الدعاة والمصلحين - الذين يُغيبهم الظلم في السجون، والذين يطاردون في مشارق الأرض ومغاربها - في أهليهم وذويهم فيكونون أحسن حالًا وأقوم سلوكًا وأعلى مكانة من غيرهم ممن يصارعون الدنيا وتصرعهم والذين يغوصون في الفساد والفسق والفجور فلا يستقيم لهم حال ولا ينجو منهم إلا من رحم ربك!
- بالرغم من شدة الاضطهاد وقسوته وطول الفراق ولوعته إلا أن الدعاة والمصلحين لا تتغير أخلاقهم ولا تتبدل مبادئهم لكون أنفسهم لم تتطلع لمنصب زائل، وقلوبهم لم تطمع في شيء من حطام الدنيا الفانية.
وإن مفردات هذا الفهم يلقيها الله تعالى في روع الدعاة والمصلحين المضطهدين والمطاردين وأهليهم وذويهم فيثبتون ويصبرون ويحتسبون ثقة فيما عند الله تعالى، ويقينًا بأنهم جميعًا في الأجر سواء، وأن ما عند الله خير وأبقى.
إن الصراع بين الحق والباطل له ملامح ثابتة لا تتغير مع تغير الأحوال والظروف، ولا تتبدل مع تبدل الأعوام والأجيال
ثانيًا/ بعض نماذج المطاردين والمتوارين في زمن الحجاج
قلنا إن الصراع بين الحق والباطل له ملامح ثابتة لا تتغير مع تغير الأحوال والظروف، ولا تتبدل مع تبدل الأعوام والأجيال، لذا سنكتفي بذكر بعض نماذج المطاردين والمتوارين في زمن الحجاج.
لقد زاد عدد المطاردين والمتوارين في زمن الحجاج، وقد سجل (الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي) سيرتهم في كتاب بعنوان (المتوارين)، نذكر منه بعض المقتطفات.
يقول الحافظ الأزدي: "لم يقتصر العلماء على الموعظة والذكرى، بل كان بعضهم يأخذ بالعزيمة، والشدة، فكان ينكر ويجاهر بإنكاره، بل وصل الأمر ببعضهم إلى عمل حركات تغييرية انقلابية، مما أدى الأمر إلى تواري بعضهم واختفائه، خوفًا على النفس تارة، ومحاولة للوصول إلى هدف ما تارة أخرى.
1. تواري الحسن بن أبي الحسن البصري من الحجاج بن يوسف
وكان تواري الحسن في منزل أبي خليفة الحجاج بن عتاب وكان من التابعين، وكان مالك بن دينار يغشى الحسن في ذلك التواري، عن العلاء بن المغيرة البندار قال: "بشرت الحسن بموت الحجاج فسجد"، وعن سفيان بن عُيينة عن أبي عثمان قال: "قال الحسن حين بلغه موت الحجاج: اللهم أنت قتلته فاقطع سنته"
2. تواري إبراهيم بن يزيد النخعي من الحجاج
قال الحبر بن عمرو: "خبأنا إبراهيم في داره حين توارى من الحجاج وكان لا يُصلي في جماعة مخافة من الحجاج"، وعن عيسى بن يونس عن الأعمش قال: "رأيت على إبراهيم خفان أو قباء أعدر كأنه نبطي قدم من الرستاق" قال: "وذلك أن الحجاج كان يطلبه"، (قباء أعدر: قميص يلبسه الملاحون فوق الثياب، والنبطي: كلمة تطلق على أخلاط الناس من غير العرب، أما الرستاق: اسم ولاية في شمال الجزيرة العربية)
وعن ابن عون قال: "بشرت إبراهيم بموت الحجاج فبكى وما ظننت أحدًا يبكى من الفرح"، وعن شعيب بن الحبحاب قال: "كان إبراهيم متواريًا من الحجاج فتوفي فدفن ليلًا فحضرت بالصلاة عليه ثم أتيت الشعبي فقال: لقد توفي في هذه الليلة رجل ما ترك بعده مثله، قلت: بالكوفة قال: لا بالكوفة ولا بالبصرة ولا بالمدينة ولا بمكة"
3. تواري مجاهد بن جبر أبي الحجاج وأبي عياض من الحجاج
كان مجاهد وأبو عياض متواريين من الحجاج فلما كان يوم الفطر أمَّهم أبو عياض.
4. تواري سليمان بن مهران أبي محمد الأعمش من الحجاج
عن ابن فضيل عن الأعمش قال: "كنا نختبئ أيام الحجاج في الآجام فكنت في أجمة كثيرة الطير فكنت أفرج القصب وأجد الصيد فأذبحه بالقصب فسألت إبراهيم والشعبي عن ذلك فقالا: لا يضرك بأي شئ ذبحت إذا ذكيت"، (والأجمة: أرض برِّيَّة غير منزرعة تتكاثف فيها الأشجار)
5. تواري سعيد بن جبير من الحجاج
عن عياش عن أبي حصين قال: "أتيت سعيد بن جبير بمكة، فقلت: إن هذا الرجل قادم (يعني خالد بن عبد الله) ولم يقدم، ولا آمنه عليك فأطعني واخرج، قال: والله لقد فررت حتى استحييت من الله عز وجل"، وعن يحيى القطان قال سمعت سفيان الثوري يقول: "ذكر سعيد بن جبير فقال: ما أعدل به من التابعين أحدًا، ما زال على بصيرة من أمره حتى قتل ما أشبهه إلا بعمَّار"
6. هروب أبي عمرو بن العلاء من الحجاج بن يوسف وتواريه منه باليمن
وعنه قال: "أخافني الحجاج فهربت إلى اليمن فولجت في بيت بصنعاء فكنت أظهر بالليل على سطحه وأكمن بالنهار فيه"
7. هرب عون بن عبد الله من الحجاج
عن سعيد بن سلم بن قتيبة قال: "خرج عون بن عبد الله مع أبي الأشعت فطلبه الحجاج فهرب إلى محمد بن مروان بالجزيرة فأجاره وضم إليه ابنه يزيد يؤدبه"
مرارة الإيذاء والطرد والإبعاد لها غصة في الحلق لا تنسى وجرح في القلب لا يندمل ونقش في الذاكرة لا يُمحى مهما مرَّت عليه السنين وتعاقبت عليه الأحداث والذكريات
أخيرًا أقول
إن مرارة الإيذاء والطرد والإبعاد لها غصة في الحلق لا تنسى وجرح في القلب لا يندمل ونقش في الذاكرة لا يُمحى مهما مرَّت عليه السنين وتعاقبت عليه الأحداث والذكريات، وهذا ما جعل النبي ﷺ يعود إلى المدينة بعد فتح مكة ليموت ويُدفن فيها، وهذا ما جعل نبي الله يوسف - عليه السلام - يأمر بني إسرائيل أن إذا خرجوا من مصر بعد وفاته أن يأخذوا جسده الشريف معهم ولا يتركوه في مصر، وهذا ما حدث بالفعل.
وأقول لكل المطاردين والمتوارين في زماننا:
لا تخافوا ولا تحزنوا ولا تبتئسوا فقد سبقكم على الطريق أعلام أفذاذ أخلصوا وثبتوا وصبروا وصابروا وإلا ما وصلتنا مناقبهم، فاستبشروا خيرًا، وتذكروا قوله: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]