القسم في أول السورة
تبدأ سورة الطور بخمسة أقسام متتالية، يقول تعالى: “وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ".
فأما القسم الأول والثاني فهما الطور أي الجبل الذي أوحى الله عنده لسيدنا موسى عليه السلام، و الكتاب المسطور أي القرآن الكريم المنزّل على سيدنا محمد ﷺ وكلا القسمين متعلق بالوحي المنزل من عند الله على أنبيائه.
وأما قوله "في رقّ منشور" ففيه دلالة على الوضوح والبيان الذي يتصف به الكتاب المنشور عن الكتاب المطوي، وهو ما تميّز به القرآن من وضوح دلالاته وبيان معانيه .
وأما القسم الثالث فبالبيت المعمور وهو كعبة السماء التي تطوف بها الملائكة ولذا ناسب أن يأتي بعده القسم الرابع بالسقف المرفوع وهو السماء .
ثم يأتي القسم الخامس وهو القسم بالبحر المسجور والذي سيسجر يوم القيامة فيصير نارا عظيمة، وهي صورة مرعبة تمهّد لما سيأتي بعدها في السورة من وصفٍ لعذاب النار الذي سيلحق بالكافرين.
وذكر البحر بعد السماء في ترتيب الأقسام لما فيهما من الآيات والدلائل على وحدانية الله تعالى وعظيم خلقه .
وأما مناسبة الأقسام لما بعدها من الآيات في مطلع السورة، فهو ربْطها بمشاهد الآخرة ربطا وثيقا فأما القسم بـ" الطور" فقد قال بعده " وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا "
وأما القسم بـ " السقف المرفوع " فقد قال بعده: “ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا "
وأما القسم بـ " البحر المسجور " فقد قال بعده " يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ".
ولعل الرابط بين هذه الأقسام جميعا هو الوحي، فهو الذي نزل على موسى في الطور ونزل على محمد في الكتاب المسطور، وهذا الوحي إنما ينزل من السماء "السقف المرفوع" وهو واضح بيّن "في رق منشور" ولذلك فمن أعرض عنه وكذّب به فقد استحق العذاب، ولذا جاء جواب القسم "إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ".
التكذيب والإعراض
ورغم أن الحق واضح بيّن إلا أن هناك نفوسا ترفض أن تستجيب له، إما لهوى جامح أو تعصب مقيت ومثل هؤلاء يعلمون الحق ولا ينكرونه ولكنهم كي يبرروا كفرهم وعنادهم يبادرون بتشويه هذا الحق وتشويه صورة حملته في أعين الناس، فها هم منذ عهد النبي ﷺ يرمون التهم عليه جزافا فتارة يقولون ساحر وتارة يقولون شاعر: “أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ" ولعجزهم عن مواجهته فهم يتمنون موته وهلاكه بموت أو فاجعة "نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ".
وهذا ما تسوله لهم عقولهم السفيهة ونفوسهم المريضة بما استقر فيها من الكبر والطغيان: “أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ".
ومن وسائل تكذيبهم وإعراضهم التشكيك في مرجعية الرسالة التي جاء بها النبي ﷺ وادعاؤهم أن هذا الوحي كذب وافتراء منه على الله: “أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ".
وهكذا حين يضعف هؤلاء عن مقاومة الحق يخفون عجزهم بالافتراءات والأباطيل، فيخبر تعالى أن كيدهم هذا سوف يرتدّ عليهم، فإن الله تعالى في نهاية الأمر ينصر أولياءه ويذل أعداءه: “أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ".
الحجة والبرهان
ومع هذا الإعراض والتكذيب بدعوة الحق، تطرح السورة منهجا متميّزا في الرد على هؤلاء المعرضين المكذبين، وأبرز ملامح هذا المنهج هي:
- الرد على الخصم من جنس كلامه: فحين ادّعى هؤلاء أن النبي ﷺ يفتري هذا القرآن من عنده، ردّ الله عليهم بمثل مقولتهم وتحدّاهم أن يأتوا بمثله إن كان من كلام البشر: “أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ".
- مخاطبة العقل: فإن السورة تردّ عليهم في إنكار الخالق، فإن لم يكن الله هو الذي خلقهم فهل جاءوا من العَدَم صدفة، أم خلقوا أنفسهم؟ وإن كانوا يقدرون على الخلق فهل هم الذين خلقوا السماوات والأرض؟
" أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ "
إن مثل هذه الأسئلة في تسلسلها تقنع كل عاقل أن هؤلاء جهلة كذبة في كل ما يدّعون .
- ربط المقدمات بالنتائج: فإن كان هؤلاء لم يخلقوا أنفسهم، ولم يخلقوا السماوات والأرض فهم إذن لا يملكون شيئا من خزائن السماوات والأرض، ولا يقدرون أن يحكموا بشيء من أمرها، وعن هذا المعنى يقول تعالى: “أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ"، فأولى لهم أن يخضعوا لله الذي هو الخالق والمدبر لأمر السماوات والأرض: “أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ".
- الأفضلية للأصلح: فإن محمدا ﷺ قد جاء هؤلاء بالوحي من السماء، فهل لهم سلّم يرتقون به إلى السماء فيستمعون لوحي مثل هذا الوحي أو يعلمون من علم الغيب ما يشهد لهم أن ما هم عليه هو الحق: “أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ".
إن هؤلاء المعرضين بمذاهبهم الباطلة التي يقدّمونها بديلا عن الإسلام وإن سادت ردحا من الزمان فإنها لا تصلح أن تحكم الناس، بل ستملأ حياتهم بؤسا وشقاء، وليس غير شرعة الله هي الأفضل والأكمل .
- البرهان والحجة: فمن ادعى شيئا فإن عليه أن يقيم الحجة بالدليل والبرهان على صدق ما يدّعيه، ولقد افترى هؤلاء على الله كذبا وبهتانا بنسبة الولد إليه وأن الملائكة بناته ولا حجة عندهم على ذلك - تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا -: “أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ" وقوله "فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ".
التهديد والوعيد
وبعد إقامة الحجة والبرهان على هؤلاء المكذّبين يأتي التهديد والوعيد لعلهم يستيقظون من غفلتهم ويخرجون من لهوهم ولعبهم: “فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ".
إن مثل هؤلاء حين يرون الحق جليّا واضحا ثم يكفرون به، يستحقون أن يجتمع عليهم عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وعندها لا يجدون لهم من دون الله وليّا ولا نصيرا: “وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ".
وأما عذاب الآخرة فتصف الآيات بعض المشاهد التي يعاينونها يوم القيامة، فالملائكة تدفعهم دفعا شديدا في صورة مهينة ليُقذفوا في النار، ويُصعقون حين يرون مصيرهم المشؤوم، وحينها يوقنون أنّ كيدهم في الدنيا لن يغني عنهم من الله شيئا ولن يجدوا في ذلك اليوم من ينصرهم أو ينقذهم من عذاب الله: “فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ".
الجنة جزاء المتقين
وكما يكون العذاب والهلاك للكافرين تكون النجاة والجنة للمتقين: “إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ" يفرحون بما أعطاهم الله من النعيم ووقاهم عذاب الجحيم: “فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ".
يجلسون على السرر متقابلين، وبأنواع الطعام والشراب متلذّذين: “كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ".
ولتكتمل فرحتهم فإنهم يجتمعون بمن دخل الجنة من ذرياتهم، وكلٌّ ينال درجته بالفضل فوق العدل دون أن ينقص من أجورهم شيئا: “وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ".
وبعد اجتماعهم يحمدون الله تعالى أن أكرمهم بالجنة التي كانوا يرجونها ونجّاهم من النار التي كانوا يخافونها: “وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ".
مهمة الرسول وزاد الداعية
وبعد هذا العرض المفصل في السورة لإعراض الكافرين وعقابهم، وإيمان المتقين وجزائهم، توجه الآيات إلى مهمة الرسول في البلاغ والتذكير، والاعتصام بالحق دون أن يلتفت إلى ما يكيده المكذّبون، فالحق سينتصر في النهاية: “قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ".
وليأخذ الدعاة عدتهم من الصبر، فإن طريق الدعوة مليء بالعقبات والابتلاءات: “وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا" وانظر كيف تعبّر كلمة "فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا" عن رعاية الله وحفظه لأوليائه الذين يحفظون دينه ويقيمونه في الأرض، وكم تعينهم أن يستعذبوا كل مرارة ويحتملوا كل أذى في طريق الدعوة .
وليخلصوا نيّاتهم لله، ولا يبتغوا بدعوتهم شيئا من مناصب الدنيا وزخرفها: “أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ".
ثم ترشد الآيات إلى الزاد الإيماني ممثلا في التسبيح والذكر والأنس بالله في قيام الليل، وكم يسكب ذلك في قلب المؤمن من السكينة والطمأنينة ويمدّه بقوة ايمانية تعينه على تجاوز الصعاب: “وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ".
وبإيمان يستقر في القلوب وصبر يواجه به الكروب يستطيع المؤمن أن يتحمل مسئوليته تجاه هذا الدين ونشره في العالمين .
هذا والله أعلم