آفة الحكم على الباطن

الرئيسية » حصاد الفكر » آفة الحكم على الباطن
آفة الحكم على الباطن

في حجة الوداع التي توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعقابها، أنزل الله - تبارك وتعالى - يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، لتبين أن الله تعالى أتم هذا الدين وأكمله فلا يحتاجون إلى زيادة فيه أو نقصان.

من هذا التمام والكمال، أن وضع الإسلام القواعد التي بمقتضاها يكون الحكم على الآخرين؛ لئلا يترك هذا الأمر للأهواء والنزعات الشخصية، وذلك انطلاقًا من كون الإسلام دين العدل ونبذ الظلم، ولو ترك الحكم على الناس لأهوائهم لكانت فتنة في الأرض وفسادًا كبيرًا.

ومن جملة هذه القواعد: أن الأحكام تجرى على الظاهر، ولا يصح الحكم على نيات الناس وبواطنهم، فإنه ليس إلى ذلك سبيل، وهذا الأصل لا خلاف عليه بين المسلمين، بيد أن الذي ينأى عن الالتزام بتعاليم هذا الدين، يختل لديه الميزان، ويتيح لنفسه أن يحكم على السرائر.

يقول الشاطبي رحمه الله في الموافقات: "أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصًا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما أيضًا، فإن سيد البشر - صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي - يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه"

الأحكام في الدنيا تُجرى على الظاهر، وأما السرائر فموكولة إلى الله تعالى، يقضي فيها بحكمه يوم القيامة

وبذا يقرر الشاطبي هذا الأصل العظيم في التعامل مع الآخرين والحكم عليهم استنادًا إلى النصوص القرآنية والنبوية، من أن الأحكام في الدنيا تُجرى على الظاهر، وأما السرائر فموكولة إلى الله تعالى، يقضي فيها بحكمه يوم القيامة.

وفي خضم الاختلاف بين الناس وضعف خلق العدل والإنصاف، وجدت آفة الحكم على نوايا الآخرين طريقها في المجتمع المسلم، حتى وصل الأمر إلى الرمي بالتكفير والإلحاد لأهل الإسلام ودعاته.

لقد أغلق الشرع باب الحكم على بواطن الناس، وهو أمر ظاهر واضح من استناد قضايا الدعاوى إلى حديث "البينة على من أدعى واليمين على من أنكر" [رواه البخاري]؛ فالمُنكر الذي يلزمه اليمين ربما يقسم زورًا وباطلًا، لكن يُقبل منه ظاهره طالما عدِم المدعي البينة، وهو أمرٌ عام، حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتاج إلى شاهد على أنه ابتاع فرسًا من أعرابي أنكر ذلك، فلما شهد له خزيمة بن ثابت جعل شهادته بشهادة رجلين.

وقصة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في تخاصمه والنصراني الذي أخذ درعه ومثولهما أمام قاضي المسلمين ليحكم بينهما معلومة، وقد ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية كما ذكرها غيره.

استدل أهل السنة على هذا الأصل من أن الأحكام تجري على الظاهر، بعدة أدلة، منها قول الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94]

قال الشوكاني - رحمه الله - في فتح القدير: "وَالْمُرَادُ هُنَا: لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَيْكُمْ وَاسْتَسْلَمَ: لَسْتَ مُؤْمِنًا، فَالسَّلَمُ وَالسَّلَامُ كِلَاهُمَا بِمَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ، أَيْ: لَا تَقُولُوا لِمَنْ ألقى إليكم السلام (أَيْ: كِلَمَتَهُ، وَهِيَ الشَّهَادَةُ): لَسْتَ مُؤْمِنًا وَقِيلَ: هما بمعنى التسليم، الذي هو تحية أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَالْمُرَادُ: نَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يُهْمِلُوا مَا جَاءَ بِهِ الْكَافِرُ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى إِسْلَامِهِ، وَيَقُولُوا: إِنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بِذَلِكَ تَعَوُّذًا وَتَقِيَّةً"

الأحكام على الناس تجري على ظاهرها

ومن أجلّ النصوص التي تدل على هذا الأصل في الحكم على الناس، ما رواه مسلم عن أسامة بن زيد قال: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ"

الشاهد من الحديث أن نُطق الرجل بالشهادتين كان مظنة الخوف من السيف، ومع ذلك أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أسامة فعله؛ لأن الأحكام على الناس تجري على ظاهرها.

يقول النووي - رحمه الله - في شرح مسلم: "وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا، الْفَاعِلُ فِي قَوْلِهِ أَقَالَهَا هُوَ الْقَلْبُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّكَ إِنَّمَا كُلِّفْتَ بِالْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ وَمَا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ، وَأَمَّا الْقَلْبُ فَلَيْسَ لَكَ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِيهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ امْتِنَاعَهُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا ظَهَرَ بِاللِّسَانِ"

ولنا في تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المنافقين عبرة، فقد كان يعلم نفاق بعضهم، ومع ذلك لم يعاملهم معاملة المُظهر للكفر لا في النكاح ولا المواريث ونحوهما، فكانوا يرثون من المؤمنين ويرث المؤمنون منهم، يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أسمائهم لكنه حرص على تقرير هذا الأصل في التعامل مع الناس؛ لأنهم أمام المؤمنين يصلون صلاتهم ويستقبلون قبلتهم ويصومون كما يصومون ويحجون ويغزون، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فَكَانَ حُكْمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَحُكْمِهِ فِي دِمَاءِ غَيْرِهِمْ لَا يَسْتَحِلُّ مِنْهَا شَيْئًا إلَّا بِأَمْرِ ظَاهِرٍ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ نِفَاقَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ"

الحكم على بواطن الناس جرأة وقحة على الشريعة التي أكدت على هذا الأصل، ولو ترك الشارع للناس أمر الحكم على النوايا لعاشت البشرية أسوأ كوابيسها، وضاعت الحقوق وسفكت الدماء

في رسالته الماتعة (تصنيف الناس بين الظن واليقين) فضح الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله - محترفي الحكم على بواطن الناس، فقال من جملة ما قال بشأنهم: "غمسوا ألسنتهم في ركام من الأوهام والآثام، ثم بسطوها بإصدار الأحكام عليهم، والتشكيك فيهم، وخدشهم، وإلصاق التهم بهم، وطمس محاسنهم، والتشهير بهم، في عقائدهم، وسلوكهم، ودواخل أعمالهم، وخلجات قلوبهم، وتفسير مقاصدهم، ونياتهم"

الحكم على بواطن الناس جرأة وقحة على الشريعة التي أكدت على هذا الأصل، ولو ترك الشارع للناس أمر الحكم على النوايا لعاشت البشرية أسوأ كوابيسها، وضاعت الحقوق وسفكت الدماء، لكن الله تعالى حكيم، عليم بما يصلح العباد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • https://ehssanalfakeeh.com/?p=6573
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

قراءة سياسية في عبادة الصيام

عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …