أطفالنا وهمومنا المعيشية.. كيف نحوُّل الأزمة إلى مِنحَة

الرئيسية » بصائر تربوية » أطفالنا وهمومنا المعيشية.. كيف نحوُّل الأزمة إلى مِنحَة
أطفالنا وهمومنا المعيشية.. كيف نحوُّل الأزمة إلى مِنحَة

بكل تأكيد، نعاني جميعًا من أزمات معيشية. مهما تباينت مستويات دخول الأفراد والأُسَر؛ فإن الجميع يعاني - وعلى مستوى العالم كله - وحتى حكومات الدول الثرية بمقاييس الاقتصاد، تعاني من عجز في موازناتها، وفي سداد ديونها.

ولو أننا توقفنا – بحكم الانتماء والأولوية – إلى الأزمات المعيشية التي تعانيها الأُسَر في بلداننا العربية والمسلمة، فإننا سوف نقف أمام أزمة مُرَكَّبة، فمن ناحية انخفاض الدخول، وارتفاع مستوى التضخُّم، وقِلَّة فُرَص العمل من ناحية أخرى.

هذا ينعكس – بكل تأكيد – على الأطفال والناشئة، الذين هم العنصر الأضعف، والأكثر احتياجًا في آنٍ واحد من الآخرين، بحكم طبيعة المرحلة السِّنِّيَّة التي يعيشونها.

وتتفاقم هذه الانعكاسات والآثار في ظل ارتباط مرحلة الطفولة والناشئة بمناسبات بعينها، مثل العام الدراسي الجديد أو إجازة نصف العام التي أقبَلَت في كثير من بلداننا العربية، والتي تتطلب الكثير من الجهد والإنفاق.

 

الأشياء التي نراها من وجهة نظرنا سوءًا، فإنها تحمل في طياتها فرصًا للكثير من الأمور الإيجابية

إلا أنه، وكما تعلمنا من سُنَنِ الخالِق عزَّ وجَلَّ أنه لكلِّ شيء وجهان: إيجابي وسلبي، والأشياء التي نراها من وجهة نظرنا سوءًا، فإنها تحمل في طياتها فرصًا للكثير من الأمور الإيجابية، وهو أمر مركزي بدهي في المفاهيم الإسلامية للتعاطي مع المِحَن والأزمات.

ففي حقيقة الأمر، نحن أمام فرصة مهمة لتعويد الأطفال وتربيتهم على عدد من القيم الإيجابية التي باتت غير مطروقة الآن لدى أُسَرِنَا، بينما هي من أهم ما يكون لتنشئة جيل صالح، قادر على مواجهة أعباء الحياة.

ومن بين هذه القيم: التأكيد على أهمية "الحوار المجتمعي" داخل الأسرة؛ لأن الظروف التي تحيط بميزانيات الأُسَر نظير ارتفاع تكلفة متطلبات الحياة، أو مؤشر مستوى المعيشة - كما يقول الاقتصاديون - تتطلب توعية الأطفال والناشئة والمراهقين بما يحدث.

 

الطفل والمراهق الذي يتعامل المجتمع معه وفق مقتضى التحولات الكبيرة الحاصلة يكون أكثر إيجابية في المشاركة الأُسَرِيَّة والمجتمعية، وأكثر نضجًا

وهي فرصة مهمة لترسيخ قيمة الشفافية والمصارحة كأساس لنجاح العلاقات الاجتماعية، وكذلك توجيه رسالة للأفراد الأصغر سِنًّا بأنهم شركاء حياة يُعتَمَد عليهم، وهو ما ينمِّي لدى الطفل والناشئة الشعور بالمسؤولية، واحترام الذات، ويكون – بالتالي – أكثر قابلية للتفاعل الإيجابي، فيصبح الطفل عضوًا نافعًا في الأسرة، ثم في المجتمع بشكل عام بعد ذلك.

وهي كلها من بدهيات التربية الصحيحة، والمهمة أيضًا، ونجدها في المناهج التي تُدرَّس في الدورات والمحاضرات التي بدأ الغرب في الاهتمام بها للمقبلين على الزواج؛ فالطفل والمراهق الذي يتعامل المجتمع معه وفق مقتضى التحولات الكبيرة الحاصلة في وسائط وأوعية المعرفة والإعلام - والتي بدَّلت بالكامل درجة وعي ومدركات الأطفال والناشئة - يكون أكثر إيجابية في المشاركة الأُسَرِيَّة والمجتمعية، وأكثر نضجًا من الطفل الذي يتم التعامل معه وفق نظريات التربية القديمة التي تعتمد وفقط على الخطاب المثالي الساذج.

وهنا يكون من المهم استغلال الفرصة الراهنة لتربية الأطفال والناشئة على مجموعة من القيم مثل: ترشيد الإنفاق، وعدم التبذير في أوقات الرخاء، والاستعداد لأوقات الشِّدَّة.

ويرتبط بذلك تعويد الطفل والمراهق على مجاهدة نفسه، وعلى قاعدة أنه ليس من صحيح الأمور أن كل ما يرغبه يجب - أو يمكنه - أن يحصل عليه، وأن أحوال الدنيا متقلبة، وبالتالي فإنه من الواجب على الإنسان إعداد نفسه لمواجهة الأزمات في أي وقت، كما تقول العبارة المنسوبة إلى سيدنا عمر بن الخَطَّاب - رضي الله عنه: "اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم"

إلا أنه من المهم هنا الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي أن الترشيد والتعاطي مع الأزمات لا يعني التقتير، وإنما يعني التعامل وفق مقتضى الواقع، وعدم حرمان الأبناء قدر الإمكان بالذات من المتطلبات الحياتية المهمة.

ويدخل تحت بند المتطلبات الحياتية المهمة، متطلبات التربية والثقافة وتنمية المهارات، وعلى رأسها الكتاب/ القصة/ المجلة، أي أية وسيلة مقروءة، وكذلك ألعاب التركيب والتنمية المهارية والذهنية، قدر الاستطاعة.

 

مهما كانت التحديات الاقتصادية لا ينبغي حرمان الطفل من سعادة دخول الأب والأُمِّ بهدية عليه، وهذه شديدة الأثر ولو لم يكن غالبية الآباء والأُمَّهات يعلمون ذلك

فلا يجب أن ينظر الأبُ والأُمُّ إلى هذه الأشياء على أنها ترفيات، بل هي من صميم التربية، والتي ينبغي أن تتضمن الاهتمام بهوايات الأطفال، وتنمية قدراتهم، وتوسيع مداركهم، وفي هذه الأمور تفادٍ لمشكلات عظيمة مستقبلاً، فعلى أقل تقدير: نشوء الطفل سَوِيًّا، يشعر بالعرفان تجاه أسرته، يعني تفادي مشكلات ضخمة مثل عقوق الوالدَيْن وزنا المحارم، أو الوقوع في فَلَك الجريمة التي تستجلب المشكلات على الأسرة كلها.

فلا ينبغي مهما كانت التحديات الاقتصادية حرمان الطفل من سعادة دخول الأب والأُمِّ بهدية عليه، وهذه شديدة الأثر ولو لم يكن غالبية الآباء والأُمَّهات يعلمون ذلك.

ويُسمَّى ذلك بـ"التواصل العاطفي"، وهو يحصل ويتحقق بصور شتى، ويبدأ من التلامس الذي يتم بين الرضيع وأمه، وحتى تَربيتَة الأبِ والأُمِّ على كتف الطفل في لحظة حزن، أو تربيتة تشجيع في لحظة نجاح، وصولاً إلى الهدية التي قد تكون لغرض موضوعي، مثل تنمية المهارات، أو هدية ذات بُعدٍ إنساني، مثل الهدية التشجيعية عند النجاح الدراسي.

في الحقيقة أن هناك - ومن خلال تجربة ذاتية في مجال ثقافة الطفل وتنمية المهارات في مصر - تطوافًا واسعًا في شرائح مجتمعية مختلفة، متباينة في مستوياتها المعيشية والاجتماعية والتعليمية، فإن هناك منظومة خاطئة من الأفكار المأخوذة عن كيفية تربية الأطفال والتعامل معهم، إما بالإهمال الكامل تحت مبررات وطأة الحالة المعيشية، أو بالشدة الكاملة، والتي لا تجدي نفعًا مع أجيال الحداثة وما بعد الحداثة.

والمشكلة الثانية التي وجدناها هي أن هناك آباء - حتى داخل الأُسَر التي بها آباء وأُمَّهات أسوياء يجاهدون في هذه الحياة بالفعل لتربية أبنائهم تربية بدنية وفكرية وعقدية صحيحة - يجهلون الكثير من قواعد التربية الصحيحة، وبعضها مهم بالفعل، ولا يمكن بحال من الأحوال الحديث عن فردٍ صالحٍ منتجٍ من دونها، ويؤدي غيابها إلى انحراف معياري كامل يدمر المجتمع فيما بعد، ولكن لهذا حديث آخر.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …