يحفل حَدَث "الإسراء والمعراج" بالكثير من الآيات والمواقف التي يخرج بها الإنسان المسلم العاقل بالكثير أيضًا من الأمور الواجب عليه أن يعمل بها في حياته.
وهذا ليس من الرقائق أو التفلسُف، وإنما نحن كمسلمين مدعوُّون لذلك/ أن نقرأ ونعلم كل ما في الأصول المتاحة لدينا: القرآن الكريم، وصحيح السُّنَّة النبوية، والتي سيرة الرسول الكريم - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - جزءٌ لا يتجزَّأ منها.
ثم بعد العِلْم، يأتي التفكُّر والتدبُّر، فذلك يقود إلى الوقوف على عدد من الأوامر والنواهي التي يجب علينا كمسلمين العمل عليها: التزام الأوامر، وتفادي النواهي.
ويكفينا هنا الإشارة إلى أن هذه الرحلة التاريخية العظيمة، كان من بين نتائجها فرض الصلاة - هي أهم العبادات في الإسلام - على المسلمين، وأنها كانت سببًا في تمحيص قلوب المحيطين بالرسول - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - وتوضيح حقيقة موقفهم من الدعوة في هذه المرحلة الحرجة منها؛ فقد تُوفِّي أبرز داعميه (أم المؤمنين) السيدة خديجة بنت خُوَيلد - رضي اللهُ عنها - وعمه أبو طالب، ونال عليه الصلاة والسلام من الأذى ما ناله في رحلة الطائف.
كان مَن أسلم مع الرسول الكريم - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - في ذلك الحين، عدد محدود، يقدَّر بالعشرات، وكانوا مَن هاجروا معه تقريبًا، وكان من المهم للغاية في تلك المرحلة اتضاح الأمور، ومعرفة مَن مع ومَن ضد.
وبعيدًا عن التفاصيل التي نعلمها جميعًا عن تلك رحلة المزوِجَة: الإسراء بالنبي من مكة إلى بيت المقدس، وصلاته - عليه الصلاة والسلام- بالأنبياء، ثم عروجه إلى السماء مع الناموس الأعظم، جبريل - عليه السلام - واقترابه من رب العزة والجلال مما لم يصل إليه مخلوق؛ فإننا نقف أمام الكثير من المعاني النبيلة.
ونختار منها هذا العام معنىً شديد الأهمية، وهو قيمة تحرر الإنسان من ربقة الدنيا، وصغارها أمام عظائم الأمور، وعظيم ملكوت اللهِ تعالى.
كان حَدَثُ الإسراء والمعراج أشبه بما يطلق عليه الفلاسفة والمفكرون "الصدمة الحضارية" للمسلمين ومجتمع مكة المكرمة الصغير في ذلك الوقت
طاف محمد بن عبد الله/ رسول الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - في هذه الرحلة بملكوت اللهِ عزَّ وجلَّ، ورأى لمحات من الحياة الآخرة، مما عَلمَ معه يقينًا مدى سطحية وتفاهة هذه الدنيا، ومدى صَغَارها أمام مُلك الله تعالى، وأمام ما ينتظر الإنسان في الحياة الحقيقية، الحياة الآخرة.
كان حَدَثُ الإسراء والمعراج أشبه بما يطلق عليه الفلاسفة والمفكرون "الصدمة الحضارية" للمسلمين ومجتمع مكة المكرمة الصغير في ذلك الوقت؛ فقد كان ما رواه الرسول الكريم - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - عمَّا رآه، وما مرَّ به، بما في ذلك أحوال أهل الجنة، وأحوال أهل النار، وصورة الحياة في السماوات السبع من الغريب بمكان، ممَّا فتح عيون وأذهان الناس على صورة أخرى للحياة، تتضاءل أمامها الدنيا.
يطلق البعض على الصلاة التي فرضها اللهُ - عزَّ وجلَّ - في ذلك الوقت على أُمَّةِ محمد - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - معراج المسلم إلى الله تعالى، وبنفس هذا المنطق في توصيف هذا الموقف العظيم بين يدَيْ الخالق سبحانه يمكن وصف الرحلة نفسها بأنها كانت أشبه برحلة إلى الآخرة.
وهو أمر جَلل وعظيم - لو ندرك ذلك - ونعلم منه مدى اصطفاء ومحبة الله تعالى لهذه الأمة، ولرسوله المختار عليه الصلاة والسلام.
يطلق البعض على الصلاة معراج المسلم إلى الله تعالى، وبنفس هذا المنطق يمكن وصف الرحلة نفسها بأنها كانت أشبه برحلة إلى الآخرة
فمن بين أهم الأسئلة التي يطرحها الفلاسفة وأتباع الديانات والعقائد الوضعية عبر التاريخ، هو سؤال مصير الإنسان بعد الموت، وشكل العالم الآخر، وهو ما أتاح اللهُ تعالى لنبيه - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - أن يراه رأي العَيْن، وسَمَح له أن ينقل كل ذلك بالتفصيل إلى الناس: مسلميهم وغير مسلميهم.
وهو ما يقول بأن رحلتَيْ الإسراء والمعراج كانتا أكبر من فكرة أن الله تعالى قد جعلها سلوى لنبيِّه - عليه الصلاة والسلام - بعد سلسلة من الخسائر الإنسانية والمعنوية والسياسية - إن صحَّ التعبير - في مكة والطائف.
فقد كان الله تعالى يمكنه أن يطلِعَ الرسول - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - على كل هذه الأسرار، وعلى تفاصيل ملكوته، ويأمره بعدم إطلاع أحد عليها، إلا أنه سمح للرسول - عليه الصلاة والسلام - بإطلاع الناس كافة عليها.
ومثَّل ذلك للمؤمنين برسالة محمد - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - في ذلك الوقت - وفيما بعد - نقطة أمان نفسي وفكري كبيرة، وجعل الأُمَّة بمنأىً عن الكثير من الضلالات التي أضاعت الكثير من الناس والأمم من قبل ومن بعد.
ويرتبط بذلك نقطة أخرى مهمة، وهي أن الله تعالى أراد بذلك أن تكون عقول الأُمَّة مُحَصَّنة تجاه مثل هذه النوعية من القضايا ولا تنشغل بها، وإنما تنشغل بما فرضه عليها فروض كفاية وفروض عَيْنٍ، مثل الجهاد بصوره، وإقامة عقيدة التوحيد ونشر رسالة الإسلام، وإعمار الأرض، وتحقيق سُنَن الاستخلاف، وهي تقف على أرض إيمانية وفكرية راسخة.
أراد أن يتمّ ذلك من دون الانشغال بزُخرف الدنيا، وألا يكون ما يفعله المسلم فيها طلبًا لها، كلا، بل يعلم أن هناك ملكوتًا أسمى وأعظم من الدنيا يتضاءل، إلى جواره زخرفها، ويستحق أن يعمل الإنسان لكي يصل إليه.
ربَّ الملكوت فتح أمامنا أبواب المعرفة والرؤية رأي العين من خلال النبي الذي نؤمن به، ونصدِّقُه ومن خلال ما قاله، ووصف به هاتَيْن الرحلتَيْن العظيمتَيْن
وهو ما يحقق الكثير مما فرضه الله تعالى في القرآن الكريم، من سُنَنٍ وتعاليم، وتصورات لأحوال الإنسان ونظرته إلى نفسه وإلى الآخرين، وأدواره في هذه الحياة، والتي خلقه الله تعالى لها حقيقةً، وأنْ يدركها بشكل واضح لا لبس فيه، بخلاف ما استُشكِل على الأمم الأخرى التي لم تُتَح لها مثل هذه الفرصة.
وهذا يدل على عِظَم ما نحن مكلَّفون به، لدرجة أن ربَّ الملكوت قد فتح أمامنا أبواب المعرفة والرؤية رأي العين من خلال النبي الذي نؤمن به، ونصدِّقُه في كل ما جاء به، محمد بن عبد الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - ومن خلال ما قاله، ووصف به بدقة هاتَيْن الرحلتَيْن العظيمتَيْن.
فَعَل ذلك لكي يُشعِر الأمة بقيمتها، وبأهميتها، وبأهمية ما هي مُكَلَّفةٌ به، وأنْ تعلم أن حياتها الحقيقية، هي في الآخرة، عندما تتَّحد مع خَلْقٍ آخر أعظم من خَلْقِ الله تعالى في السماوات، بعيدًا عن الأرض، وعن الدنيا وضآلتها، الحياة الراسخة، بعيدًا عن الحياة الدنيا الزائلة!