لقد اقتضى العدل الإلهي جواز الانتصار من المُعتدي الظالم بمثل ما اعتدى به على غيره كي لا يتمادى الظالم في ظلمه وكي لا يعيث في الأرض الفساد.
كما حث الشرع على فضيلة العفو إذا كان سيترتب عليه تهدئة النفوس، وسيكون العفو سبباً لوأد الفتنة ورجوع الجاني عن جنايته واعتذاره عما بدر منه في حق غيره.
أما إذا ترتب على العفو تجرؤ الظالم وتماديه في الظلم فالعفو في هذه الحالة يكون مذموماً؛ لأنه يعد خنوعاً ورضوخاً، ولأنه سيترتب عليه مفسدة أكبر، والشرع أمرنا بـ "درء المفسدة" كما أمرنا بـ "سد الذرائع" التي تفضي إلى استفحال الفساد وإثارة الفوضى.
من هنا نفهم أن الدين الإسلامي يرفع الإنسان إلى درجة سامية ولا يصطدم مع الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها، فالإسلام يجمع بين المثالية والواقعية.
أولاً/ التأصيل الشرعي للجهر بالسوء ومقابلة السيئة بمثلها
من منطلق ما ذكرناه من ضوابط وحقائق أباح الشرع الجهر بالسوء من القول لمن اعتُديَ عليه، كما أباح مقابلة السيئة بمثلها ورد العدوان بمثله.
1. قال تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء: 148]
قال ابن عباس رضي الله عنه: "لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: (إِلاَّ مَن ظُلِمَ) وإن صبر فهو خير له"
وقال الإمام الرازي رحمه الله: "لا يحب إظهار الفضائح والقبائح إلا في حق من عظم ضرره وكثر مكره وكيده، فعند ذلك يجوز إظهار فضائحه"
2. قال تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ {41} إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 41، 42]
في الآية التي بين أيدينا ثناء من الله تعالى لمن ينتصر من الظالمين البغاة سيما إذا كان الباغي مُتسلطاً وقحاً، مُعلنا عن فجوره، معروفاً به ومُروجاً له.
للفرد أن يعفو عما كان في حق نفسه بعد اتباع ما ذكر من ضوابط وليس له أن يعفو عما كان في حق العامة
وهذا الثناء لا يتنافى مع مدح العفو؛ فالعفو إنما يكون بعد أن يُقر الباغي بجنايته ويُذعن للمظلوم ويستسلم لتنفيذ حكم الشرع فيه، والعفو إنما يكون في حالة أن يكون العفو أردع للظالم وأقوم من أخذ الحق منه. وللفرد أن يعفو عما كان في حق نفسه بعد اتباع ما ذكر من ضوابط وليس له أن يعفو عما كان في حق العامة، ففي حال وقوع الضرر العام على حقوق العباد وثوابت الأمة ورموزها يكون الانتقام هو الأولى.
عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنَّها قالت: "... وما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه، إلا أن تُنتَهك حُرْمَة الله فينتقم لله بها" [رواه البخاري ومسلم]
قال سيد قطب رحمه الله: "إن الأرض لا تصلح وفيها ظالم لا يقف له الناس ليكفوه ويمنعوه من ظلمه، وفيها باغ يجور ولا يجد من يقاومه ويقتص منه"
من هنا نفهم أن العفو لا يكون مُطلقاً فـ (العفو المُطلق فساد مُطلق)، وبالعفو المطلق تضيع الحقوق وتعطل الحدود ويتجبر البغاة ولا يرتدعون.
قال ابن الجوزي رحمه الله: "وليس للمؤمن أن يُذِلَّ نَفْسه، فينبغي له أن يَكْسِر شوكة العُصاة؛ لتكون العِزَّة لأهل الدِّين"، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: "كانوا يَكرهون للمؤمنين أن يُذِلّوا أنفُسَهم، فيجترئَ عليهم الفُسّاق، فإذا قَدَروا عَفَوْا"، وقال الجصاص رحمه الله: "العفو هو محمول على الغفران عن غير المُصِر، فأما المُصِر على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه"
وقال المتنبي:
وَكَم عَينِ قِـرنٍ حَدَّقَت لِنِزالِـهِ ** فَلَـم تُغـضِ إِلّا وَالسِنـانُ لَها كُحــلُ
إِذا قيلَ رِفقاً قالَ لِلحِلمِ مَوضِعٌ ** وَحِلمُ الفَتى في غَيرِ مَوضِعِهِ جَهلُ
وقال المتنبي أيضاً:
ووضعُ الندى في موضع السيف بالعلا ** مُضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "من استغضب فلم يغضب فهو حمار ومن استرضي فلم يرض فهو شيطان"، من هنا نفهم أنه على اللبيب الفطن أن يضع الدواء في موضع الداء، وأن يفرِّق بين الشجاعة والتهور، والتواضع والمهانة، والصفح والعجز.
كان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه ثلاثاً ثم عاقبه كراهة أن يعجل في أول غضبه، فلا يجوز للمعاقب أن يخلط بين حظ النفس ومشروعية العقاب.
ويلخص الإمام ابن تيمية رحمه الله كل ما سبق في قوله في (مجموعة الفتاوى): "والناس في هذا الباب أربعة أقسام: منهم من ينتصر لنفسه ولربه وهو الذي يكون فيه دين وغضب. ومنهم من لا ينتصر لا لنفسه ولا لربه وهو الذي فيه جهل وضعف دين. ومنهم من ينتقم لنفسه، لا لربه وهم شر الأقسام. وأما الكامل فهو الذي ينتصر لحق الله ويعفو عن حقه"
هنا نفهم وجوب المماثلة في رد الاعتداء بدون تجاوز وبدون الوقوع في محظور نهى الشرع عنه مثل مقابلة الشتم بالكذب والافتراء
3. قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126]
هنا نفهم وجوب المماثلة في رد الاعتداء بدون تجاوز وبدون الوقوع في محظور نهى الشرع عنه مثل مقابلة الشتم بالكذب والافتراء، وبدون استخدام ألفاظ يُحرمها الشرع، وبدون مقابلة السب المشروع بالقذف الممنوع. جاء في الحديث الشريف قول النبي ﷺ: " ولا تخنْ من خانكَ" [صحيح أبي داود]
ذكر الشافعي - رحمه الله - في "الأم" أن عديا [بن أرطاة أمير البصرة] كتب لعمر بن عبدالعزيز أن الخوارج عندنا يسبونك، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: "إن سبوني فسبوهم أو اعفوا عنهم، وإن أشهروا السلاح فأشهروا عليهم، وإن ضربوا فاضربوهم"
وقال مجاهد والسدي: "إذا قال: أخزاك الله تقول: أخزاك الله، وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي"
ثانياً/ بعض الضوابط التي يجب مراعاتها عند الانتصار من الظالمين
عند الانتصار من الظالمين والبغاة يجب مراعاة عدة ضوابط:
- أن نبتعد عن عصبية الجاهلية
- ألا نجمع بين الغضب لحظ النفس والثأر لها وبين توقيع العقوبة فنتجاوز ونأثم
- أن نستحضر ثواب العفو عند المقدرة كي لا نحرم أنفسنا منه
- ألا يتعدى العقاب إلى غير المُسيء فلا يؤاخذ أهل الباغي بجريرته ولا تؤاخذ قبيلته بما اقترفت يداه
- أن نرفع المظلمة لولي الأمر ليوقع العقاب على الباغي ولا نوقع نحن العقوبة؛ لضمان نزاهة الحكم ودقة التنفيذ
- مراعاة العدل والإنصاف فلا نقتص من ضعيف ونترك جباراً مُتسلطاً
- عدم ترويج الإشاعات والافتراءات
- التثبت وعدم الشروع في رد فعل دون تمحيص لا يدع مجالاً للشك
- عدم الوقيعة والتحريش بين الأفراد فالشرع قد نهى عن التحريش بين البهائم وبالتالي فالتحريش بين بني البشر أولى بالنهي (وكل حالة تقدر بقدرها في إطار الشرع)
- عدم الضغط على إنسان ضعيف لكي يتنازل عن حقه طالما أن نفسه لا تطاوعه على العفو فإن إغلاق الجرح الذي امتلأ قيحاً وصديداً يُفسد الجسد كله
- ألا نعيب على المظلوم مُطالبته بحقه
- ألا نترك الظالم حتى يستفحل شره بل نأخذ على يده خشية أن تغرق سفينة المجتمع، وخشية من عقاب الله تعالى الذي لا يتنزل على الظالمين خاصة بل يتنزل على الجميع
الإسلام لا يرضى بالوكس، ولا يقبل الشطط، ولا يرعى الجور، ولا يناصر الحيف، ولا ينحاز للغبن، ولا ينصح بالخنوع، ولا يؤيد الانكسار ولا الذلة ولكنه يقتلع كل ذلك من الجذور ليظل المسلم عزيز النفس
قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]
أخيراً أقول:
إن الإسلام لا يرضى بالوكس، ولا يقبل الشطط، ولا يرعى الجور، ولا يناصر الحيف، ولا ينحاز للغبن، ولا ينصح بالخنوع، ولا يؤيد الانكسار ولا الذلة ولكنه يقتلع كل ذلك من الجذور ليظل المسلم عزيز النفس، مُهاب الجانب، مرفوع الهامة وليظل المجتمع الإسلامي مجتمعاً راقياً وسطياً متوازناً لا يعترف بأبيقورية اليهود ولا برواقية النصارى.