الابتلاء العام هو كالابتلاء الخاص، يصيب الله به، إما عذابا، وإما عقابا وغفرانا للذنوب، وإما لرفعة الدرجات.
والزلازل والبراكين والمجاعات والمصائب العامة، هي ابتلاءات يصيب الله بها عموم عباده في بلدة أو منطقة، فإما أن تكون تلك المصيبة العامة عذابًا من الله على هؤلاء الناس، وهذا ما لا يكون إلا في أمة كافرة كفرت بالله بالكلية وتمادت في كفرها وإلحادها، أو في أمة مؤمنة فاسقة بالغت في فسوقها وفي مبارزة الله بالعصيان.
وإما أن تكون المصيبة العامة عقابًا من الله لعباده المؤمنين على عصيانهم وحيدهم عن تمام شرعه ومنهاجه، وتكون حينها عقابًا لتطهيرهم وغفران ذنوبهم، وإما أن تكون المصيبة العامة على عباد الله الصالحين لرفعة درجاتهم، وليبلغوا بتلك المصيبة وبصبرهم عليها من الدرجات العليا في الجنة، ما لم يكونوا ليبلغوه بمجرد أعمالهم وطاعاتهم.
الحياة الدنيا كلها دار ابتلاء، يبتلي الله فيها بالشدة والعافية، ليصبر المبتلى ويشكر المعافى، ويؤدي كل منهم حق الله، هذا في صبره على الابتلاء، وذلك في شكره على العافية
والمصيبة العامة، التي تصيب عموم الناس في منطقة ما، كالزلازل والبراكين، تصيب الناس على عمومهم، الصالح والطالح على حد سواء، فالكافر المعاند منهم تكون له عذابا، وكذلك المجاهر بالمعصية المعلن بها الناشر لها، وتكون في ذات الوقت غفرانا للذنب لبقية المؤمنين المذنبين غير المجاهرين بالمعاصي ولا الناشرين لها، وتكون في ذات الوقت كذلك لرفعة درجات الصالحين من بينهم.
وكما يكون الابتلاء الخاص ليس دليلا قاطعا على حال المُبتلى، فكذلك هو الابتلاء العام. فقد يبتلي الله إنسانا بابتلاء خاص، ويعافي غيره من ذلك الابتلاء، ولا يكون ذلك دليلا على فساد المُبتلى، ولا على صلاح المُعافى، ولا يكون ذلك دليلا كذلك على فساد المُعافى وصلاح المُبتلى.
الحياة الدنيا كلها دار ابتلاء، يبتلي الله فيها بالشدة والعافية، ليصبر المبتلى ويشكر المعافى، ويؤدي كل منهم حق الله، هذا في صبره على الابتلاء، وذلك في شكره على العافية.
وقد يصبر المبتلى ويثبت على إيمانه، ويضل المعافى وينسى شكر الله على عافيته، فيصبح الابتلاء حينها هو العافية الحقيقية، وتصبح العافية حينها هي الابتلاء الحقيقي.
وبنفس المعنى، قد يبتلي الله جماعة من الناس بابتلاء عام، ويعافي غيرهم من الجماعات من ذلك الابتلاء، ولا يكون ذلك دليلا على ارتكاب هؤلاء المبتلين للذنوب، وعلى صلاح المعافين، ولا دليلا على ارتكاب المعافين للذنوب وصلاح المبتلين.
قد يبتلي الله هذه الجماعة من الناس في تلك البقعة من الأرض بالشدة، ليرى صبرهم ورضاهم، ويعافي الله تلك الجماعة من الناس في تلك البقعة من الأرض، ليرى حمدهم وشكرهم.
الناظر في حال العرب والمسلمين في البلاد العربية والإسلامية، سيجد أن الجميع بلا استثناء في غاية البعد عن الله
الذي ينظر فيما يحدث للسوريين، من حرب أهلية منذ سنوات قتلتهم وشردتهم، ثم عواصف ثلجية تقتلهم بردا، ثم زلازل تهدم عليهم بيوتهم، يتساءل: "ماذا فعل السوريون ليستحقوا كل ذلك!؟ والجواب على ضوء ما ذكرناه آنفا: ليس لزاما أن يكون السوريون قد فعلوا الأفاعيل ليستحقوا ذلك الابتلاء الشديد.
والعقل البصير الناظر في حال العرب والمسلمين في البلاد العربية والإسلامية، سيجد أن الجميع بلا استثناء في غاية البعد عن الله، وفي غاية الغرق في مستنقعات الذنوب والمعاصي والتقصير.
ولو كان الأمر ابتلاء بسبب الذنوب والمعاصي والتقصير، لاستحق كل المسلمين في كل الدنيا – تقريبا - ذلك الابتلاء، بل وأشد منه.
ولكن الأمر غير ذلك، من الممكن أن يكون ذلك الابتلاء بسبب الذنوب والمعاصي والتقصير، ولكنه حينها لا يعني أن هؤلاء هم أكثر الناس ذنوبًا، وإنما هو ابتلاء لبعض المذنبين كي يرتدع الباقون الذين لا يقلون ارتكابًا للذنوب، ومن الممكن أن يكون ابتلاء من الله لأصلح الناس وأخلصهم؛ لتنقية الذنوب ولرفعة الدرجات.
المصائب العامة، أصابت الكثير من بلادنا العربية والإسلامية: حرب أهلية في سوريا، وحرب ومجاعة في اليمن، وقبلهما حرب أهلية في العراق، وزلزال مدمر في تركيا وسوريا.
تلك المصائب، ما دامت في ديار المسلمين، فهي - في أغلب الظن وأحسنه - لغفران الذنوب ورفعة الدرجات، ولتنبيه الناس في بقية البلاد العربية والإسلامية، أنهم معرضون لمثل ذلك؛ لأنهم ليسوا أقل تقصيرا ولا أقل ارتكابًا للذنوب، ولكنها حكمة الله أن يبتلي هؤلاء ليعتبر أولئك.
وهناك سؤال: هل يُكثر الله من ابتلاءاته على المسلمين خاصة؟
والجواب: برغم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن أكثر الناس بلاء هم الأنبياء ثم الذين يلونهم من الصالحين، إلا أن النظر ليقطع بأن البلاء واقع على كل الناس، صالحهم وطالحهم، وبذات درجاته؛ لأنه سنة من سنن الله الكونية، التي قطع الله بها: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] والإنسان هنا لفظة عامة، تعني كل إنسان، سواء كان مسلما أم كافرا؛ فالمسلم يمرض وكذلك الكافر، والمسلم يموت وكذلك الكافر، والمسلم يفقد أحباءه وكذلك الكافر، والمسلم يصاب بالهم والحزن والفزع وكذلك الكافر.
والمصائب العامة من زلازل وبراكين ومجاعات وحروب أهلية، أصابت وتصيب وستصيب المؤمن والكافر على السواء.
والفرق بين الابتلاء الذي يصيب الكافرين والابتلاء الذي يصيب المؤمنين في هذه الحياة الدنيا، أن ابتلاء الله للكافرين هو من عاجل عقوبته لهم، وأن ابتلاء المؤمنين هو من عاجل رحمته بهم، غفرانا لذنوبهم ورفعة لدرجاتهم.
الابتلاءات الخاصة والعامة، يصيب الله بها المؤمنين والكافرين، غير أن المؤمنين فيها يرجون ما لا يرجوه الكافرون، من ثواب الله ودرجاته
وينطبق على ذلك قول الله تعالى: {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104]، فإن كانت الآية تتحدث عن قتال المسلمين مع الكافرين، وعن ما يصيبهم في ذلك القتال من قتل وجراح وخوف، وعن أن ذلك يصيب الجميع: كافرهم ومؤمنهم، غير أن المؤمنين يرجون في ذلك ما لا يرجوه الكافرون، من ثواب الله ودرجاته.
فكذلك هي الابتلاءات الخاصة والعامة، يصيب الله بها المؤمنين والكافرين، غير أن المؤمنين فيها يرجون ما لا يرجوه الكافرون، من ثواب الله ودرجاته.
والمشاهد التي تدمي القلب التي نراها للمقتولين هدما وبردًا لهؤلاء المسلمين، والتي نرى فيها بعضهم تحت الأنقاض لساعات وأيام، هي مشاهد لم يحكم بها إلا إله رحيم، هو أرحم بهم منا نحن المتألمين لهم والباكين عليهم.
ورحمة الله الرحيم بهم، تتمثل في أنه ابتلاهم بالألم الذي يطيقونه في النهاية، والذي يعطيهم به الجنات والدرجات في الآخرة، فإن وصلوا لدرجة عدم القدرة على تحمل الألم، فإنه يقبض حينها أرواحهم رحمة بهم، ليعجل لهم حينها بالجنة.
فالله الرحيم، لا يبتلي أحدا بالألم، إلا ويعطيه القدرة على تحمله، فإن فقد القدرة على التحمل، يقبضه الله حينها، رحمة ورأفة به، ومن وراء ذلك الأجر والمثوبة.
ثم إن ذلك الإنسان المبتلى إلى حد تلك المشاهد التي تؤلم وتبكي، ليأتي الله به - كما أخبرنا في وحيه - يوم القيامة، ثم يغمسه غمسة في الجنة، تنسيه كل ألم وفقد، ثم يقول له: "هل رأيت بؤسًا قط"، فيقول العبد المبتلى: "ما رأيت بؤسًا قط"
فمهما بلغ الابتلاء، ومهما ظهرت قسوته على المبتلى، فهو لحظة دنيوية، وراءها خلود في جنات، تنسي الغمسة الواحدة فيها، كل ابتلاء وبؤس، مهما كانت درجته، ومهما بلغت شدته.