يُعرف الإنسان أحيانا بأنه حيوان ناطق، وسواء قبلنا هذا التعريف أو تجاوزناه فإننا نجد أنه هنا قد تميز بصفة عن سائر المخلوقات الحية، إنه ينطق، يتكلم ويعبر عن ذاته، عن حاجاته وآماله وسائر شئونه..
إنها نعمة البيان التي ألِفها الإنسان فغفل عما فيها من إعجاز تحار فيه العقول.
إننا ننطق نعم، لكن كيف تخرج الأصوات، ما العمليات التي تجرى في الداخل بين الحنجرة والقصبة الهوائية حتى تصل إلى الفك واللسان والشفاه والأضراس التي تتعاون حتى تخرج حرفا أو عدة أحرف أو كلاما طويلا منسجما متراصا..؟
قد يستطيع علماء اللغة واللسانيات وأطباء تلك الأجزاء من الجسم تحديد بعض الخواص المادية وكيف تعمل، لكن أيا منهما لن يكون قادرا على تحديد حقيقة الأمر كيف بدأ وكيف تُؤدى الوظائف تلقائيا في الداخل بلا أوامر يلقيها المتكلم الذي متى شاء أفاض ومتى أراد أحجم.
وإنك لتسمع أصواتا متباينة فتدرك منها الحاد والرخيم والغليظ والهادئ وغير ذلك حتى أن الناس يتعارفون بالأصوات ويصلون إلى بعضهم من خلالها، فسبحان القادر الذي كما خلق صورا مختلفة، فقد باين بين الأصوات وطرق الكلام والتعبير رغم الخلقة الواحدة والأصل الواحد.
وليست العجيبة في إخراج الصوت والحرف فحسب، بل لو رحت تتبع كيف تُكتسب اللغات وكيف بدأ الكلام في أول الخلق وكيف تكونت اللغات واختلفت وتنوعت، لوجدت أن ذلك لا يكون إلا لصاحب القدرة المطلقة، فهو سبحانه القائل:"وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" ﴿٧٨﴾ النحل
لقد علم آدم الأسماء والألفاظ ومنحه أداة التعلم والتواصل والتعبير والإبانة ليقوم بمهمة الاستخلاف وليكون قادرا على ملء الدنيا علما وقولا فيبقى ما فيه خير بين الناس تتلقاه القرون وتناوله للأجيال المتتابعة لتنتقل به من طور إلى آخر، ويذهب جفاء ما قد تكاثر من باطل وزيف.
إن الإنسان بدون البيان كائن عاجز ناقص، وإن توفرت طرق أخرى للتعبير لدى الإنسان، إلا أن تلك النعمة جزء من كمال خلق الله ومن إحسانه إلي بني آدم وتكريمه لهم. فبها أصبح معبرا؛ معلما ومتعلما، أديبًا وشاعرا، قارئا وفقيها. وبها عبد ربه وأقبل عليه بالدعاء والمسألة وبها حمده وذكره وأدام التسبيح والنجوى.
فحرى بمن تأمل نعم ربه أن يتخذها مطية إليه فلا ينشغل بها عنه، بل يضعها في محابه وفيما يجلب رضاه ومغفرته.