تموج الحياة بأصناف شتى من الابتلاءات والمحن، ولأنّ القرآن الكريم هو النهج القويم والصراط المستقيم في ضوء تعدد السبل من أمامنا ومُبلّغه - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - رسول الهدى ومُخرج الناس من الظلمات إلى النور كان لزاما علينا أن نضبط بوصلة حياتنا وفق ما وردنا في كتاب الله وسنة نبيه الأكرم.
وفي كل الظروف التي نحيا ونعيش ونصارع، والضغوط والفتن التي تتجاذبنا، يحضرني حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء" [صحيح مسلم]، وقد ورد في تفسير الحديث: "وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة ثم انتشر وظهر ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضًا كما بدأ" [شرح النووي على صحيح مسلم]
فهو - صلى الله عليه وسلم - بما أتاه الله من علم وأطلعه على الغيب يفتح لنا نافذة على المستقبل، لنعد لها ما استطعنا من عدة وعتاد، فلا تفجعنا الخطوب ولا تزلزل إيماننا النوازل بل نزداد يقينًا وثباتا، فيحدثنا عن غربة سيعيشها الإسلام وأتباعه في قادم الأزمان وأي فتن ستحيط بنا وتعترض مصيرنا ليكون القابض فينا على دينه كما القابض على الجمر من النار لقوله صلى الله عليه وسلم: "ويل للعرب من شر قد اقترب، فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر، أو قال على الشوك" [مسند أحمد بن حنبل]
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حتى تَلْقَوْا اللَّهَ تعالى وَرَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - على الْحَوْضِ" [صحيح البخاري]، وقد جاء في تفسير الحديث: "أنّ المراد بالأثرة الشدة" [فتح الباري]
ما نفع كل أموال الدنيا ونعمائها وزخرفها، إن كان المستعمل عليها ظالمًا لا يُراعي حق الله وحقوق العباد
يحثنا صلى الله عليه وسلم على التزود بالصبر عند كل شدة تصيبنا وعثرة تعترض مسيرنا، عندما يطغى الطغاة، وتؤكل الحقوق وتضيق الدنيا علينا بما رحبت، فما قد يفوتك من عرض الدنيا يعوضك الله عنه في أخراك ويجزك على الصبر أضعافًا مضاعفة، وما نفع كل أموال الدنيا ونعمائها وزخرفها، إن كان المستعمل عليها ظالمًا لا يُراعي حق الله وحقوق العباد، فستكون عليه حسرة وندامة بل ما جدواها وكل مُلك عدا ملك الله زائل، وهناك تسترد المظالم وتقتص الحقوق، فالصبر وإن كان مذاقه مرًاّ إلا أنّ ثماره تستحق مرارة مذاقه.
والمتأمل في الواقع الذي تحياه البشرية والمجتمعات المسلمة تحديدًا يدرك الشدائد التي تمر بها وتستدعي الصبر عليها حتى يكشف الله الغمّة.
وكأنه صلى الله عليه وسلم ينظر لواقعنا من مرآة الغيب ويرى ما سنجد وأي الخطوب ستحل بنا ليأمرنا بالصبر، ومباشرة يبشرنا بأن مكافأة صبرنا هي اللقاء على الحوض، وكأنّ الفتن التي سنمر بها ستهلكنا ظمأً، فكانت الجائزة اجتماع الحوض، بل اللقاء مع الحبيب عند الحوض، وفي ذلك نعمتان نعمة الصحبة لسيد الخلق ورفقته، ونعمة الارتواء من الحوض.
وإذا تفكرت قليلا وجدت الحث على الصبر هو القاسم المشترك فيما بين النصوص التي بين يدينا، فبإذن من الله يطلعنا النبي الأكرم ما سيجده المؤمن الملتزم بشرع ربه وسنة نبيه من غربة في بني جنسه، والله يحثنا على التمسك والتصبر مع ثلة عرفت طريقها وقت تفرق السبل وضبابية الطرق الأخرى فلا تشدنا الدنيا بمباهجها ومغرياتها في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، فإن كان الخطاب في هذه الآية موجهًا للنبي الأكرم، فهو كذلك موجه لمن سار على نهجه واتبع هديه - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
تأمل الكم الهائل ممن تكوي سياط الظلم ظهورهم، ويقبضون على دينهم كما يقبضون على الجمر بأيديهم، يثبتون أنفسهم برصها في صفوف عرفت حقيقة الدنيا ومآلها
وانظر وتأمل من حولك ما نعاصره من كل الأعراض التي تحدثت عنها النصوص السابقة، وتأمل الكم الهائل ممن تكوي سياط الظلم ظهورهم، ويقبضون على دينهم كما يقبضون على الجمر بأيديهم، يثبتون أنفسهم برصها في صفوف عرفت حقيقة الدنيا ومآلها، فجثوا على عتبات ربهم لا تغرهم زهرة الحياة الدنيا ولا تثنيهم غربتهم عمن حولهم، يسيرون فرادى فهم يعلمون أنّ من سنة الله في هذه الحياة الغربة، وربما التفرد أو الآحاد من الأشخاص ممن يثبتون في هذا الدرب، درب سلكه الأنبياء من قبلهم، فقد ورد عن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النبي معه الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ معه الرَّجُلَانِ وَالنَّبِيُّ معه الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ ليس معه أَحَدٌ" [صحيح البخاري]
فاثبت في طريق سلكه من قبلك الأنبياء والصالحون، واتبع بخطواتك خطواتهم وتسلح بالصبر وتزوّد بالتقوى، واشدد على دينك بقلبك ونواجذك ولو هلكت دونه فهذا دأب من قبلك وسنة الله في خلقه.