فزّاعة الواقعية من أكبر موانع تقويم الذات وعقباته، إذ كلما فتح أحد فَمَه بنداء المسؤولية الفردية للصلاح والإصلاح، انبرى "الواقعيّون" ينادون بمراعاة حَرَم الواقع، خشية أن يؤدي تصحيح الفرد لمساره في الحياة لانعزاله عن المجتمع السائر في مسار مغاير أو معاكس، فتصير دعوة بناء الذات مِعْوَل هدم في حقيقتها؛ إذ كأنّها تقود ضِمنًا لهدم الصلة بيننا وبين الواقع القائم، وقطع الأواصر مع المحيط الذي لا بد لنا من معايشته.
ومن عجب أنّ الجزع من "احتمال" الانفصام بين واقع الذات وواقع الآخرين، لا يُولي أدنى اعتبار لحقيقة الانفصام "القائم بالفعل" بين الذات ونفسها في مسايرتها لواقع الآخرين، هذا الأخير مسكوت عنه ومتروك على حاله، طالما ظلّ اعتبار الواقع المَرْضِيّ عنه في الصَّدارة، فتأمل المفارقة!
حين يوضع كلٌّ في قَدره، يصير من المقدور التعامل معه، بخلاف تكتيلهم جميعًا في كتلة مصمتة اسمها "واقع الناس"
وأما نوع الواقع الذي يَحصُر الواقعيون الواقع كله فيه فليس حقيقة إلا واقع الناس أو المجتمع المحيطين بفرد في سياق، لهذا نسمّيه واقع "المحيط" تلافيًا للتضخيم الدرامي الذي يُسبَغ عليه، كأنّ على كل فرد مراعاة واقع العالم كله في نفسه! مع أنه لا يَمَسّ الفرد منا حقيقة من تَعداد سكان المجتمع - ولا أقول العالم - إلا أفراد معدودون، من الأهل والأقارب والأصحاب والمعارف، وهذا محيط معدود مهما كثر، ومحدود مهما اتسع، بل ليس كل أفراده يعنينا رأيهم أو نَطلب الوجاهة عندهم، أو نُطالب حتى بإرضائهم ومجاراتهم، شرعًا أو عرفًا، فتأمّل واعتبر!
وهكذا حين يوضع كلٌّ في قَدره، يصير من المقدور التعامل معه، بخلاف تكتيلهم جميعًا في كتلة مصمتة اسمها "واقع الناس"، الذي يُخيَّل لك في رأسك بصورة مليون نَسَمَةٍ على الأقل، لا سبيل لقهرها أو مغالبتها، ولا مَفرَّ من الانقهار أمامها والتسليم لها! والانسحاق السهل تحت الضغط المجتمعي المُضَخَّم، هو علامة أكيدة على الهشاشة الشخصية على المستوى الفردي، ومن مجموع هشاشة الأفراد تكون شدة اتّكالهم على بعضهم، في استمداد الثبات والقيمة من بعضهم، فتأمل الدوامة، وتفكّر!
إذا استحضرتَ أنّ كل فرد من البشر يتكلم ويعتقد ويتصرف وفق مرجعيته أو عجينه، فما لك وعجين الناس؟ ماذا عنك أنت؟
إنّ الناس أبدًا سيتكلمون ويظنون وينتقدون، فماذا يعنيك من كلام الناس؟ من هم الناس في ميزان مرجعيتك وتقديرك؟ هل الإشكال أنهم يخوضون كما يخوض البشر، أم أنّ الإشكال ممّن يكشف صدره للخائضين ليخترقوه في الصميم؟
وإذا استحضرتَ أنّ كل فرد من البشر يتكلم ويعتقد ويتصرف وفق مرجعيته أو عجينه، فما لك وعجين الناس؟ ماذا عنك أنت؟ ماذا ترى أنت؟ ماذا تعتقد أنت؟ ماذا ترتضي أنت؟ ماذا تخشى أنت؟ أَقبِل على نفسك أنتَ فخلّصها من عجينها وانجُ بها، أمّا أن تضيف لعجينك من عجين الناس، ثم تقعد محترقًا في فرن الواقعية، فتلك اللاواقعية بعينها؛ لأنك تُهدر وتضيّع ما كان يمكن أن يكون عليه واقعك بالانقياد الأحمق والتسليم الأعمى لما عليه واقع الناس حولك.
وتأمل فيما رَوَته السيدة أمُّ سَلَمةُ - رضي الله عنها - زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: "كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَذْكُرُونَ الْحَوْضَ وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمًا مِنْ ذَلِكَ وَالْجَارِيَةُ تَمْشُطُنِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: "أَيُّهَا النَّاسُ!" فَقُلْتُ لِلْجَارِيَةِ: "اسْتَأْخِرِي عَنِّي"، قَالَتْ: "إِنَّمَا دَعَا الرِّجَالَ وَلَمْ يَدْعُ النِّسَاءَ!"، فَقُلْتُ: "إِنِّي مِنْ النَّاسِ"، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لكم فرطٌ على الحوض، فإيَّاي لا يأْتينَّ أحدكم فيُذَبُّ عني كما يذبُّ البعير الضالّ، فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سُحقًا" [مسلم]
واقع الناس قائم على جذور متشعبّة من عُقد النقص، هي التي تؤدّي غالبًا لتشاكس المعايير عند من يتّخذ الناس موردًا أساسيًّا من موارد استمداد تقدير الذات
تأمل في اعتبارها - رضي الله عنها - لنفسها من الناس المَعنِيّين بخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإصرارها أن تسمع وتفيد ممّن لا يُفوَّتُ التعلّم منه بحال، ولو شاءت لسَوَّغَت لنفسها القعود، ولسايرت الماشطة في رأيها، وكلٌّ وما عد نَفسَه وارتضى لنَفسِه!
ومن جهة أخرى، فواقع الناس قائم على جذور متشعبّة من عُقد النقص، هي التي تؤدّي غالبًا لتشاكس المعايير عند من يتّخذ الناس موردًا أساسيًّا من موارد استمداد تقدير الذات.
ومن علامات عقد النقص تلك الاحتماء بظلّ أو "عُزوة" المجموع لإعفاء النفس من المَلامة، فإذا صَعُب على قارئ - مثلًا - مستوى أسلوب أو عمق فكر ما، رَمَى المادّة جانبًا على الفور، متحجّجًا: "إنّ الناس لن تفهم مثل هذا الأسلوب أو الفكر"، بدل أن يعبّر مباشرة عن حاله فردًا: "أنا لم أفهم المغزى أو صَعُب عليّ الأسلوب"
فالنهج الأول ينفي أيّة احتماليّة لكون الإشكال من جهته، في سطحية اطلّاعه أو ضحالة لغته، أو غير ذلك، وهذا النهج النفسيّ من التحامي بالكثرة وبالسائد، يرفع عن الفرد أيّة ملامة أو دافع للتعامل مع ذاته داخليًا، فالإشكال يكمن دومًا في شيء أو أحد ما خارج الذات، والأعذار حاضرة بعدد الناس، وقد لا يبدو أن في هذا المثال البسيط بأسًا، لكنك لو وسَّعته ليصير نهج حياة – كما هو بالفعل – لظهر لك مدى البأس البئيس!
ما جدوى كَوْنِ كلِّ فَردٍ ذا إرادةٍ وعقلٍ ومسؤوليةٍ وحسابٍ مُستقلِّين؟ وكأنّ الواقع ليس نتاجًا بشريًا من بشر مثلنا وإن سبقونا!
ولا ينفي ما سبق حقيقة وجود ووقوع الضغط المجتمعي، ولا يهوِّن من أثر ضيق خِناقه كواحد من كبرى ابتلاءات هذه الدّار الدنيا، وإنما النفي لحتميّة التّفتّت التام أمامه والانسحاق الشامل تحته، وإلا فما جدوى كَوْنِ كلِّ فَردٍ ذا إرادةٍ وعقلٍ ومسؤوليةٍ وحسابٍ مُستقلِّين؟ وكأنّ الواقع ليس نتاجًا بشريًا من بشر مثلنا وإن سبقونا!
أو كأنه كان جامدًا على هيئة واحدة على مدار التاريخ، لم يتجدّد ولم يتعدّل على أيدي الأفراد غالبًا قبل الجماعات!
والقاعدة أن الشجرة لا يمكن أن تسبق البذرة، والبذرة دائما بالفرد في نفسه، ولذلك نتكلم في مقال تالٍ عن بناء واقع الذات.