لجملة "كان ياما كان" مفعول السحر على الكبار قبل الصغار، جرّب أن تقول لأحد المقربين منك: "تعال أخبرك بقصة كذا، أو أحكي لك ما الذي حصل" ولاحظ ردة فعله واستجابته التي ستختلف كثيرًا جدًا عنها لو قلت مثلًا: "حصل معي كذا بينما كنت أعود من المطار، أو أتوجه إلى العمل" مهما كان الموضوع غير ذا أهمية، فإن تقديمه كقصّة يجعله مثيرًا.
ولا تعدّ القصة في التربية ضربًا من ضروب الأدب، كما لا تؤخذ بمعناها اللغوي، ولا الإصطلاحي أيضًا! فهي تحتل المركز الأول في جدوى وفاعلية تعليم وتربية الطفل؛ لأن القرآن الكريم – وهو أهمّ معلّم ومربٍّ – تعامل معها كأسلوب فاعل لإيصال الرسائلِ، وسَوْقِ الأمثال ونشر الدعوة الإسلامية.
وفي العملية التربوية فإن للقصة ما لها في تعديل السلوك، وإيصال الفكرة، وتصحيح الأخلاق، وحل المشكلات وتحفيز الخيال، تماما كما للقدوة والنموذج دورًا تعمّقه القصص وتدعمه ويكمل الدور في العملية التربوية .
لماذا القصة؟
وما هو الدور الذي تؤديه القصة ولا ينجح في أدائه سواها؟
لأن للقصة تأثيرًا على الطفل الذي يمثل الخيال في عالمه جزءًا رئيسًا، فالطفل لا يستمع إلى القصة بأذنيه وحسب، وإنما تشترك حواسه مجتمعة في فهمها واستيعابها ورؤيتها واقعًا؛ فهي بالنسبة إليه ليست سردًا جامدًا، وإنما مجموعة مشاهد متحركة ولقطات متتالية سواء كانت حقيقية/ واقعية، أو خيالية.
القصة أفضل قالب أو وعاء يقدّم فيه المحتوى التربوي للطفل عبر حكاية تستمد وقائعها وأحداثها من قلب الهدف التربوي مصوغًا بطريقة تناسب خيال الطفل وعقله وخبرته
ثمّ لأن القصة محبّبة للطفل، تشد انتباهه للسبب السابق، وغيره؛ فهي تمثل نوعًا من المشاركة العاطفية للطفل مع شخوص الحكاية والذين يعدهم تلقائيًا جزءًا من عالمه الخاص وبيئته، وكأنهم أهله الحقيقيون، ومن هنا تنبع أهمية القصة وشخصياتها التي تصبح قدوة للطفل يحاكيها بشكل غير واعٍ.
والقصة أفضل قالب أو وعاء يقدّم فيه المحتوى التربوي للطفل عبر حكاية تستمد وقائعها وأحداثها من قلب الهدف التربوي مصوغًا بطريقة تناسب خيال الطفل وعقله وخبرته/ أو حصيلته اللغوية، ويتولى خياله مهمّة تحويلها إلى واقع معاش وترسيخ أهدافها في قلب الجوانب السلوكية، الفكرية، أو الحركية... كما خُطط لها بل وأكثر دقة!
اقرأ أيضًا/ كيف نعلّم أبناءنا الأخلاق الحسنة
ومن أهم الأدوار التي تلعبها حكاية القصة للطفل في مراحله العمرية المختلفة، أذكر بعضها – على سبيل المثال قبل أن آتي على تفصيله بعد قليل - مثلًا: الوقاية من الإصابات فيتوخى الحذر في حركته وتصرفاته أكثر، تنمية التواصل اللفظي وبناء حصيلة لغوية كبيرة، تعزيز مهارات الخيال والإبداع، تحسين السلوك، والتخلص من الشوائب السلوكية والمشاكل الأخلاقية كالتنمر، السخرية، التجسس والنميمة وغيرها، بالإضافة إلى تنمية وتعزيز قيم المواطنة وحب الوطن واحترام الأرض وتنمية المهارات المدنية والقيمية، وحفظ الممتلكات العامة والخاصة واحترام الحريات والتربية المالية والتوعية المادية بكل ما يحيط به.
تؤثر القصص على الطفل فتحكم تكوينه الفكري، والديني، وحتى النفسي؛ لأن القصة تعني بمعناها العميق اتباع أثر أو سلوك وطريقة سواء بالقص والرواية، أو بالتمثّل والتقليد والمحاكاة
أهمية القصة تنبع من قوة تأثيرها على الطفل
تؤثر القصص على الطفل فتحكم تكوينه الفكري، والديني، وحتى النفسي، وغير ذلك من جوانب مهمة يأتي تفصيلها بعد قليل، وذلك لأن القصة – ببساطة – تعني بمعناها العميق اتباع أثر أو سلوك وطريقة سواء بالقص والرواية، أو بالتمثّل والتقليد والمحاكاة.
وفيما يلي تفصيل للجوانب التي تستطيع القصة التأثير عليها لدى الطفل، لدرجة أن تكون القصة - بدون مبالغة – أفضل ما قد يفكر الوالدان في استخدامه لتفعيل الأثر التربوي لخطتها في تربية أبنائهما.
1. الجانب العقلي والفكري: تساعد القصة في تقريب أي مفهوم مجرد يحاول المربي إيصاله للطفل، فتحوّل الجوامد والنظريات إلى صور ذهنية ، وتحيل الحسابات العقلية إلى لعبة ذهنية يستمتع بها الطفل، وبذلك تسهم في تنمية عقله وطريقة تفكيره.
2. الجانب الاجتماعي: القصة أفضل طريقة يمكن للطفل أن يتعلم من خلالها الأخلاق والعادات الاجتماعية؛ لأن لها قدرة في تبصيره بالأطراف المتضادة اجتماعيًا، فيتعرف إلى الخير والشر بشكل قريب ومباشر، ويميّز الصواب من الخطأ، ويستقرئ الآراء والآراء المخالفة ويستطيع بالتالي تكوين نظرة اجتماعية مبدئية عن الحياة.
3. الجانب النفسي والانفعالي: يتقوّى الطفل نفسيًا حين يجد من يشبهه في القصة ومن يحبّه فيقرّب إليه تلك القصص التي تسليّه وترفه عنه وتحمله إلى الخيال والمتعة – رفقة الفائدة التي يرجوها المربي – فيصل إلى التوازن النفسي، كما تمنح القصص الطفل فضاءً ليعيش عواطفه الحقيقية وينمي انفعالاته ويوجهها إلى الأماكن الصحيحة.
4. الجانب الشخصي: يتمثل الطفل عادةً أبطال القصص التي يسمعها وبذلك تتطور شخصيته يومًا بعد يومٍ، وتبنى بقدرات متميزة كما يعيش بين أبطالها الأحداث فتضعه في مواقف يختبر نفسه فيها ويصقل شخصيته من خلالها.
5. الجانب الخيالي: تمنح القصة الطفل فرصة لتحويل الكلام المنطوق والأحداث إلى صور ذهنية خيالية، ويحول الكلمة إلى أجسام وأجساد وعوالم يتيحها خياله الواسع في حينه، فتعيش معه فترة طويلة، ويزداد اتساعًا وينمو يومًا بعد يوم، والخيال الإبداعي والواسع واحد من أهم عوامل نجاح الإنسان في حياته.
6. الجانب الثقافي والمعرفي: كلما ركّز الوالدان والمربون والمعلمون في اختيارات ونوعية ومحتوى القصص التي يقدمونها للطفل كان الناتج الثقافي والمعرفي أكبر وأهم وأفضل ، وهو يزداد مع مرور الوقت وتتابع الأحداث ويثمر في شخصية الإنسان كلما استمر هو ومحيطه في توجيهه.
7. الجانب اللغوي والنطق: منذ طفولة الإنسان تبدأ حصيلته اللغوية ونطقه بالتشكل من خلال أحاديث الوالدين والأخوة والأقارب، بالتعرف على البيئة والكائنات والعناصر والمحسوسات من حوله، وبالقصص ومن خلال القص وطريقة الراوي وغنى الحكاية لغويًا يمكن للطفل تكوين ثروة لغوية وقدرات نطق وفصاحة وبلاغة بشكل تلقائي.
اقرأ أيضًا/ كيف تحمي ابنك من التنمر
8. الجانب الذوقي والأخلاقي: ربما لا يكون هنالك ما هو أفضل من حكاية قصة للطفل بتفاصيلها من الناحية العاطفية/ الانفعالية، لتعلمه أخلاقيات وذوقيات التعامل والتواصل والتعاطي مع البيئة والمحيطين وأخلاق الانسجام وآداب التواصل واختيار الهدايا والألوان، وغيرها من الأخلاقيات والذوقيات العامة.
9. الجانب الديني: أيضًا يتدخل اختيار نوع القصة وهدفها في تنمية الطفل دينيًا، وتطعيم القصة ببعض القيم الإسلامية وشرح الدروس المستفادة – ربما في وقت لاحق غير وقت رواية القصة – وبالذات إذا استخدم المربون قصص القرآن وقصص الأنبياء مع أقوامهم وقصص حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – مع الصحابة وزوجاته وأبنائه.
يمكن للوالدين والمربين اختيار أي نوع من القصص منها طالما كان يخدم أهدافهما في التربية، واستثناء القصص التي تشوبها محاذير تربوية أو أخلاقية أو دينية
أي قصص نحكي لأبنائنا،وأيها نتوخى تجنبها؟
يمكن للمربي أن يتخيّر القصص التي يحكيها للطفل، بل لابد له أن يتخيّر القصة ويضع في اعتباره حقيقة مهمة وهي: أن تأثير القصّة لا ينحصر على وقت حكايتها، بل يتجاوزها إلى جميع حياة الطفل وحتى أوقات نومه ، وبناء على ذلك يمكن للوالد اختيار نوع القصة.
وتتنوع أنواع قصص الأطفال بين: القصص القرآني، النبوي، الديني، التاريخي، الاجتماعي، الواقعي، العلمي، الخيالي، والفكاهي.
ويمكن للوالدين والمربين اختيار أي نوع من القصص منها طالما كان يخدم أهدافهما في التربية، واستثناء القصص التي تشوبها محاذير تربوية أو أخلاقية أو دينية وبعض تلك المحاذير على سبيل المثال:
- القصص التي تدعو للرذائل أو تحمل بين سطورها ما يوحي بذلك
- القصص التي تحتوي على مشاهد عنف أو قتل أو سطو أو إيحاءات جنسية وسلوكيات غير مقبولة دينيًا وأخلاقيا
- القصص التي تحتوي على الخيال العدواني، وغير المنطقي أو الخيال الذي يشعر الطفل بالعجز
- قصص السحر والجان والرعب التي تدفع بالطفل في هوة الخوف والوجع أو الهوس المنحرف والمتطرف
- القصص التي تخدم وتدعم الغزو الثقافي والفكري والقصص المرتبطة بأساطير تؤسس للفكر المنحرف
- القصص التافهة التي لا يرجى منها أية فائدة
لا بد أن يكون المربي ذكيًا في التعامل فتصبح القصة كمكافأة أحيانًا وكحافز أو داعم في أوقات أخرى، وكطريقة للتنمية والتطوير، والدعم اللغوي والمعرفي والديني
كيف نحكي القصة للطفل؟
يختار المربي كل ما يخص الطفل حسب قدراته الفردية وإمكاناته، وحسب الأهداف التي يرجوها من حكاية القصة ، سواء كان الهدف تعليميًا، تربويًا، ترفيهيًا... إلخ.المهم أن يراعي بعض الاعتبارات منها: تغيير الصوت؛ لأن هذا يؤثر في الطفل إيجابيًا ويعجبه ويساعده على الاستيعاب، كما من المهم أيضًا تهيئة الطفل نفسيًا للاستماع للقصة وتهيئة المكان سواء في وقت النوم أو وقت الترفيه... وغيرهما.
اقرأ أيضًا/ لماذا يجب أن نحكي قصص اللاجئين لأطفالنا
لا بد أن يكون المربي – سواء كان أحد الوالدين أو غيرهما – ذكيًا في التعامل فتصبح القصة كمكافأة أحيانًا وكحافز أو داعم في أوقات أخرى، وكطريقة للتنمية والتطوير، والدعم اللغوي والمعرفي والديني... إلخ. ويختار الهدف ويحدد القصة والمكان وطريقة الحكي حسب ما يقرره.
كتب ذات صلة بالموضوع
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- كتاب الحوار مع الأبناء علاج لكل داء: د. غادة حشاد [ط1، دار عصير الكتب: 2021]