لا شك أن الحياة تعطي وتعلم الجميع بالدروس والعبر، فالبعض تثقله هذه التجارب خبرات ونضوجًا، والبعض أيضا تمر عليه هذه الأمور كأن لم تكن أو كأنها لم تحدث فهي عابرة لا مردود فيها أو لها عليه.
ولعل من أكبر التجارب والدروس والخبرات التي يكتسبها الناس في حيواتهم هي أن يكون أبًا وتكون أمًا - أو بالتفصيل الدقيق عملية التربية - فليس كل أب بارع وليست كل أم متمكنة، فالخبرات هنا تكتسب نتيجة التجربة والمواقف، فتارة نجاح وأخرى اجتهاد، والكثير سؤال وما خاب من استشار.
ونحن اليوم سنتحدث عن همسات عاجلة، أو سمها محاذير مهمة، لا ينبغي للوالدين أن يقعا فيها، فضلا عن حدوثها ورد الفعل المتوقع منهما.
وهذه المحاذير والهمسات التربوية في تأسيس الأبناء هي:
أولًا/ الصراخ
ولأول وهلة قد يظن القارئ أن المقصود هو الطفل، لكن الواقع أن المقصود هو صراخ الأب أو الأم فصراخ الكبار في وجه الصغير سواء بسبب أو بدون سبب، هو أشبه بتوجيه مسدس إليه؛ فنحن نقتل في أولادنا الكثير من المواهب بصوتنا العالي الموجه إليهم، والصراخ في وجوههم؛ لأن الصراخ يقينًا لن يأتي منفردًا وستصحبه حدة في مخيفة النظر، وتحريك اليد إما تهديدًا أو تفعيلا لمبدأ الضرب اللعين.
والأخطر أن الصراخ يجعل الطفل يميل للعزلة أو الانطواء، فضلا عن الطامة الكبرى وهي صمته وعدم فضوله أو ثرثرته، وهذا أمر محزن ؛ لأن الأطفال جميعًا يعشقون الكلام والسؤال وما نسميه نحن "الرغي" وهو أمر محمود في مراحل الطفولة المبكرة وغيابه قد يكون مشكلة.
إن الصراخ داء، وقد يطول الداء ليصل للأبناء بشيء من التعب النفسي الصامت الذي لن يكتشف بسهولة، لذلك على كل أب وأم أن يعلما أن راحتهما ليس بصمت أبنائهما عن الحركة، أو البكاء، لكن براحتهم النفسية وابتسامتهم وضحكاتهم في أرجاء البيت.
نحن نقتل في أولادنا الكثير من المواهب بصوتنا العالي الموجه إليهم، والصراخ في وجوههم؛ لأن الصراخ ستصحبه حدة النظر والتهديد
ثانيًا/ غياب التقدير
وهنا قد يسأل سائل: وهل الأولاد يفهمون التقدير؟ والجواب: إن كانوا هم لا يعلمونه أو يفهمونه، فإن الوالدين يدركان أهميته أو هكذا يجب أن يكون!
إن الكلمة الطيبة صدقة، والإنسان مجبول على حب المدح، وتطرب الأذن به، وكم من طفل تحولت حياته من بكاء واكتئاب وبداية توحد إلى سعادة وهناء وراحة بال، والسبب أن والديه يقدّران جهده في البيت، ويمتدحان صنيعه مع إخوته الصغار وعنايته بهم أو استجابته لكلام أبويه.
هذه أمور قد تظن أنها بسيطة لكنها مؤثرة جدًا في حياة الطفل، وأثرها بالغ في مستقبله نفسيًا ومعنويًا.
ثالثًا/ المقارنات
المقارنات بشمولها بين الأبناء من المشكلات الكبيرة التي تحدث، خصوصًا إن كانت غير منضبطة وشعبوية، وبصيغة وخطاب يدفع الطفل للحزن أو الهروب إلى غرفته باكيًا.
ونحن هنا لا نجلد الوالدين، لكن نوجه إليهما نصيحة: فإن كان ولا بد من المقارنات يجب أن تكون بخطاب بسيط، يحمل بين طياته ذكر مزايا طفلك، بمعنى أوضح يجب أن يكون زمام المقارنة ونتائجها في صالح طفلك وليس أحد من أقاربه، وتلك فطانة لو توفرت في الوالدين لعمقت الحب بين الأبناء والآباء بشكل أكثر تأثيرًا وسلاسة، وأحدثت فروقًا في مزايا الطفل عن غيره، سيشعر بها الأبوان عاجلًا؛ لأنها سريعة التأثير والحدوث.
المقارنات بين الأبناء من المشكلات الكبيرة التي تحدث، خصوصًا إن كانت بصيغة تدفع الطفل للحزن أو الهروب إلى غرفته باكيًا
رابعًا/ البخل
والبخل هنا ليس ماديًا، وإن كان الإنفاق والسخاء المادي، على الأهل عمومًا ووفق احتياجاتهم من عوامل الراحة عند الأبناء كبيرًا وصغيرًا، بل من عوامل السعادة بين جميع أفراد الأسرة، لكننا نتحدث عن البخل في التعامل من الجانب العاطفي، فهو باب خطير يصل بالأمر للقسوة.
ولنا في النبي الأكرم خير مثال للحب وإشباع أبنائه وأحفاده، فقد ورد أنه نزل من على منبره ليحتضن الحسن بن علي، وكانوا يصعدون على ظهره الشريف وهو يصلي وكان يقبلهم كثيرًا، حتى قال أحد الرجال: "أتقبّلون الصبيان؟ إن لي عشرة من الأبناء لا أُقبّلُ أحدًا"، فقال له النبي: "وما أملِكُ لك أنْ نزَع اللهُ الرَّحمةَ مِن قلبِك"
إذن فالأمر جد خطير، لذلك فإن احتضان الأبناء وإشباعهم عاطفيًا، والإفاضة عليهم من الحب بغزارة هو من أجمل الصفات، والجميع في حاجة لهذه العاطفة، حتى تستقيم العقول والقلوب وتسكن الأرواح الموجوعة .
خامسًا/ وجود الشرطي
وهذا باب خوف شديد؛ لأن رجل الشرطة لا يأتي إلا بعد حدوث مشكلة كبيرة أو أمر جلل، لكن المعنى المقصود هو روح الشرطي في حزمه وشدته في أوامره ونواهيه وفي انضباطه، فيجد الأبناء أنفسهم أمام والد برتبة شرطي يأتي من عمله يوجه الأوامر ويحذر من التقصير والصوت العالي، ويتوعد بالعقاب ثم يتوجه إلى سريره ليزيل أوجاع ومعاناة عمله طوال اليوم.
وهنا تكمن الكارثة فلا يستطيع الأب الشرطي التحرر من هموم عمله، حتى يأخذها معه لبيته ويفرض نفس الواقع، وعليه فالأمر متعب وصعيب على الأبناء، بل والزوجة أيضًا لذلك فإن من واجب كل أبٍ أن يضع مشكلات عمله، بل مصاعب الدنيا التي يواجهها أمام باب بيته وهو يخلع حذاءه، ولا يأخذها معه إلى الداخل؛ لأن توابع هذا على بيته وأسرته ليست بالأمر المقبول، فضلًا عن أن الأسرة تحتاج دوما لحالة حوار ولحظات فضفضة وسمر .
المسار الصحيح للتربية يكون بإدخال السرور على الأبناء والأخذ بأيديهم بلطف وود، والحديث معهم والإنصات إليهم بكل حب وصبر، والدعاء لهم بصلاح الحال
حتى ينسى الجميع أوجاعه، والأب البارع هو من يسرق من الدنيا لحظات السعادة ويشارك الجميع بها حتى تطول وليس العكس.
ختاما.. يهمنا أن يكون الأب بارعًا في تربية الأبناء، والأم متمكنة في فهم الأبناء، والمجتمع ككل سعيدًا ومدركًا حقيقة التربية وأثرها القويم في حاضر ومستقبل الأجيال.
وفي نفس الوقت نهمس في أذن الوالدين بأن المسار الصحيح للتربية يكون بإدخال السرور على الأبناء والأخذ بأيديهم بلطف وود، والحديث معهم والإنصات إليهم بكل حب وصبر، وقبل كل هذا الدعاء لهم بصلاح الحال، وأن يكون مستقبلهم طيبًا وسعيدًا، وفي هذا فليتنافس المتنافسون.