عجيبٌ جدا، أن الذي يسعى بقوة للإتيان بدين جديد، يجمع فيه الأديان السماوية الثلاثة، هو من يملك بحقٍّ الدين الذين يجمع، والذي لا يحتاج معه إلى أن يسعى لصناعة دين غيره، لن يكون فيه من الحق بقدر ما سيكون فيه من الباطل.
سيقول البعض: ما لكم تبالغون في الهجوم على الذين يريدون التقريب بين الأديان السماوية؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، ويودون أن ينتهي التعصب بين أتباعهم، وينتهي التكفير والتحارب.
ولهؤلاء نقول: نحن لا نبالغ في شيء من هجومنا على هؤلاء، لسببين اثنين، سبب متعلق بطبيعة هؤلاء وتوجهاتهم العامة، وسبب متعلق بهذه الدعوة خاصة، وبأبعادها وغاياتها.
فأما السبب المتعلق بهؤلاء الداعين لهذا الدين الجديد، فهو أنهم قد نذروا أنفسهم من قديم للوقوف ضد كل ما هو إسلامي، وللانبطاح أمام العدو الصليبي والصهيوني.
فهم أنفسهم الذين انبطحوا أمام العدو الصهيوني إلى حد التطبيع مع "إسرائيل"، مع ما تمارسه "إسرائيل" يوميًا في فلسطين من قتل للناس واغتصاب للأرض وهدم للبيوت، وهم أنفسهم الذين عادوا ثورات الشعوب العربية للتحرر من طغيان الأنظمة الطاغية الظالمة، وأنفقوا المليارات من أجل الانقلاب على هذه الثورات وتغيير مكتسباتها، وهي الثورات التي كانت بملامح إسلامية ظاهرة، وما كان يُنتظر من ورائها إلا تقدم الإسلاميين، وتحقيق مشروعهم الإسلامي الموعود.
كيف نجمع بين أديان ثلاثة، في بوتقة واحدة، ودينان منها باطلان مزيفان، ودين ثالث هو دين الحق
ومثل هؤلاء - مع منطلقاتهم وتوجهاتهم هذه - لا يُنظر لأيِّ من أعمالهم وممارساتهم، إلا بعين الريبة والشك، وافتراض سوء النية قبل حسنها، بل واليقين بدل الافتراض.
وأما السبب الثاني الذي يبرر هجومنا فهو المتعلق بالدعوة ذاتها، فهي دعوة مشبوهة، إذ كيف نجمع بين أديان ثلاثة، في بوتقة واحدة، ودينان منها باطلان مزيفان، ودين ثالث هو دين الحق.
كيف نجمع بهذه الدعوة بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب! أي دين آخر غير دين الإسلام، من حق أتباعه، بل ومن الواجب عليهم أن يبحثوا عن بديل، يكون أكثر تجميعا وأكثر إنسانية وأكثر وسطية.
أما دين الإسلام، فليس لأتباعه إلا زيادة التمسك به؛ لأنه الأكثر تجميعا وتوحيدا، فهو الدين الوحيد في الأديان الثلاثة الذي يؤمن بالدينين الآخرين، وهو الأكثر إنسانية بعيدا عن عدائية وعنصرية الديانة اليهودية وعن سذاجة واستسلام الديانة المسيحية، وهو الأكثر وسطية بعيدًا عن تشدد وتطرف الديانة اليهودية وعن تمييع وتسطيح الديانة المسيحية.
ويا للعجب، من أمة مسلمة جعلها الله خير أمة أخرجت للناس، وجعل كتابها خير كتاب، ونبيها خير نبي، وقد حمّلها أمانة دعوة الناس إلى هذا الحق الأبلج، ثم هم بعد ذلك يدخلون مع الناس في متاهاتهم التي فيها يتيهون بدلا من الأخذ بأيديهم وإخراجهم منها.
على المسلمين واجب كبير وحساب عسير في ما وصل إليه العالم اليوم من كفر وضلال، وحسابهم العسير يأتي لأسباب، فالهوان الذي يعيشه المسلمون هو أكبر صارف لأصحاب الديانات الأخرى عن التفكير في أحقية دين الإسلام بالإيمان والاتباع.
فالفقر والجهل والضعف والهوان الذي يعيشه المسلمون يصرف كثيرا ممن يفكرون في الإسلام كدين حق، عندما يتشككون ويقولون: لو كان الإسلام دين حق، لما وصل حال أتباعه إلى هذا الحد من الهوان، وكما قال ابن خلدون في مقدمته ما معناه: "إن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب، في دينه ولغته وعاداته وتقاليده"، وإن الشق الآخر لهذه المقولة الصادقة هو: "وإن الغالب لن يقلد أبدا المغلوب، لا في دينه ولا في لغته وعاداته وتقاليده".
دين الإسلام هو دين الحق الوحيد على ظهر الأرض، وكل المعتقدات الأخرى باطلة، والأديان السماوية الأخرى غير الإسلام هي أديان محرفة ومزيفة ومدلسة، أتباعها كافرون، وتجب لهم النار إن ماتوا على ذلك
والهزيمة التي يعيشها المسلمون، والهوان الذي يعيشونه معها، هو من صنع أيديهم، بسبب تخليهم عن دينهم وعن الأخذ بأسباب القوة والعزة، وعلى المسلمين كذلك حساب عسير في ما وصل إليه العالم اليوم من كفر وضلال؛ لأنهم قصروا تقصيرا كبيرًا في دعوة غيرهم من أهل الأديان الأخرى، فلا حكومات المسلمين أدت هذا الدور ونظمته وموّلته كما ينبغي، ولا هي تركت الجمعيات والأفراد الذين يقومون بهذا الدور لكي يؤدوا ما نذروا أنفسهم له دون تضييق وإيذاء.
والجمعيات التي عملت على نشر الإسلام في ربوع الأرض، وعملت على دعم المسلمين الجدد، اتُهمت بدعم الإرهاب وتمويله، وغُلّقت أبوابها، من قِبل الأنظمة الحاكمة، بضغط من أوروبا وأمريكا.
وعلى المسلمين حساب عسير في ما وصل إليه العالم اليوم من كفر وضلال، بسبب التردد والميوعة في وصف الكفر بالكفر، بل والقبول به على أنه إيمان، وهذه هي النقطة المتعلقة بمقالنا.
فأول ما يساعد غير المسلمين على التفكير في باطل معتقداتهم وفي أحقية الإسلام بالاعتقاد والإيمان، هو أن يبين لهم المسلمون ذلك، بل وأن يلحوا عليهم به.
أول الواجبات الدعوية التي تجب على المسلمين إزاء أهل المعتقدات الأخرى أن يصدعوا بكلمة الحق الأولى، وهي: أن دين الإسلام هو دين الحق الوحيد على ظهر الأرض، وأن كل المعتقدات الأخرى باطلة، وأن الأديان السماوية الأخرى غير الإسلام هي أديان محرفة ومزيفة ومدلسة، وأن أتباعها كافرون، وأنهم تجب لهم النار إن ماتوا على ذلك.
تكفير الآخر في الأديان السماوية هو من صلب العقيدة، ولا يستطيع مؤمن بحق بأي دين سماوي أن يتجاوزه، وإلا كان هو نفسه كافرا في نظر دينه
أما التردد والميوعة التي يقع فيها المسلمون، والتي تجعل البعض منهم يقولون: "إن اليهود والنصارى ليسوا كفارا"، ويقولون: "الجنة ليست حكرا على المسلمين"، ويقولون: "الترحم يجوز على غير المسلمين"، ويقولون: "إن الله لن يعذب من يقدم الخدمات الجليلة للإنسانية، حتى ولو لم يكن مسلما"
ويحتفلون بأعياد غير المسلمين، وبالأعياد التي تحمل معاني كفرية منها، ويشاركون غير المسلمين من اليهود والنصارى في قُدّاساتهم وصلواتهم، ثم هم أخيرا، يشكلون تجمعا دينيا من الإسلام واليهودية والنصرانية، يسمونه (الإبراهيمية) ليكون دينا جديدا، ظانين بأن ذلك سيقضي على التكفير والتعادي والتحارب بين أتباع الأديان الثلاثة.
والذي لا يعرفه هؤلاء، بل ويعرفونه: أن تكفير أتباع كل دين من هذه الأديان الثلاثة لأتباع الدينين الآخرين، هو من صميم العقيدة والدين، وبغير هذا التكفير، لا تبقى للدين قائمة يقوم عليها.
ففي الإسلام: كفر اليهود والنصارى من المعلوم من الدين بالضرورة، وبغير ذلك التكفير لا يكون الإسلام إسلامًا؛ لأنه الدين الحق الوحيد الذي جاء ليؤكد على أن غيره من الأديان ما هو إلا كفر وضلال، وكذلك ينظر أتباع اليهودية لأتباع الإسلام وأتباع المسيحية، وينظر أتباع المسيحية لأتباع الإسلام وأتباع اليهودية.
تكفير الآخر في الأديان السماوية هو من صلب العقيدة، ولا يستطيع مؤمن بحق بأي دين سماوي أن يتجاوزه، وإلا كان هو نفسه كافرا في نظر دينه، أما التعادي والتحارب بسبب هذا التكفير فهو ما يجب أن نسعى جميعا لإنهائه، ولتثبيت التعايش والمسالمة بين جميع البشر، دون أن يمس ذلك بالعقائد، ودون أن يتطلب تخليا عنها وعن متطلباتها.
غير المسلمين (من اليهود والنصارى) لم يرضوا على مر العصور إلا بقهر المسلمين واستذلالهم، بالحرب أو بالمكر، ولن يجنحوا للسلم معهم إلا إذا كان المسلمون غالبين منتصرين
ومع ذلك، فإن الواجب علينا أن ننتبه كمسلمين إلى أن التعادي والتحارب بين البشر على أساس العقائد والأيديولوجيات هو كتابٌ كتبه الله على البشر.
وإن كان الله قد وضع قانونه الخالد في المسالمة {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، فإنه سبحانه وتعالى قدم جنوح غير المسلمين للسلم على إجابة المسلمين لهم وجنوحهم له.
فلا سلام ولا تعايش للمسلمين مع غير المسلمين إلا إذا أراد غير المسلمين ذلك وسعوا له، أما إن تمادوا في العداء، وأرادوا الحرب والقتال، فليس لهم إلا ذلك.
والتاريخ أنبأنا أن غير المسلمين (من اليهود والنصارى) لم يرضوا على مر العصور إلا بقهر المسلمين واستذلالهم، بالحرب أو بالمكر، ولن يجنحوا للسلم معهم إلا إذا كان المسلمون غالبين منتصرين، وحينها فقط سيجنحون للسلم صاغرين مرغمين.
هذا هو الذي أنبأنا به التاريخ، والتاريخ لا يكذب.