قبل الافتتان الذاهل بالعلوم الأجنبية، لا بد من الانتباه إلى طبيعة البيئة التي تفتّق منها ذلك العلم وطبائع العقول التي ترعرع فيها، وطبيعة تلك البيئة لا تُفهم إلا بالرجوع لمنشأ جذور العداوة بين العقل والدين في التاريخ الغربي، والتاريخ الذي يعنينا في هذا المقام يبدأ منذ احتوت الدولةُ الرومانيّة النّصرانيّةَ دينًا رسميًّا للإمبراطورية في عهد قسطنطين الثاني (وتأمل الفرق المنهجي بين دولة تتبنى دينًا، ودين تقوم عليه دولة)
وبقدر ما كان هذا الاحتواء نصرًا وانتشارًا للنصرانيّة، كان تحريفًا لجوهرها وإدخالًا لعناصر الإغريقية الوثنية فيها، وانعقد بين الكنسية والحكومة ولاء، بموجبه تولّت الكنيسة صياغة الخطاب الديني للشعب بتأويلات وتعاليم تُجاري الأحداث السياسية، وعملت الحكومة في المقابل على توحيد المذاهب الرومانية المختلفة تحت راية الكنيسة، فصارت النصرانية في شكلها النهائي تعبيرًا عن تصوّر روماني سياسي- كنسي.
وترتب على ذلك على المدى احتضان الكنسية لأفكار وتصورات سائدة، واتّباع سياسة التوافق مع الجوّ العام والميل للركود والتخوّف من أدنى القلاقل، واكتسبت الموروثات والتقاليد قداسة بما أسبغته عليها الكنسية من هيبة دينية وما فرضته الحكومة لها من ولاء اجتماعي، واتخذ الاثنان موقفًا عدائيًّا من الجديد والتغيير، ولو كان في مجال العلوم التجريبية المنفصلة عن الدين والسياسة معًا؛ لأنهما يعكّران "مبدأ" التوافق مع السائد.
تجاوز العداءُ الأفكارَ والتصوراتِ الدينية إلى منهج التفكير الديني بجملته وعلى الإطلاق، وتفتق توجه عام لابتداع مناهج ومذاهب فلسفية فكرية الغرض الأساسي منها معارضة ومعاندة الفكر الديني
فلم تكتفِ الكنيسة بالهجوم الفكري على مستحدثات تلك العلوم وأهلها، بل استخدمت سلطانها الديني والسياسي ببشاعة فى التنكيل بكل المخالفين لتَوراتِها الدينية والعلمية على السواء!
ويمكن مراجعة تاريخ محاكم التفتيش الكاثوليكية في رومانيا وأسبانيا والبرتغال - والتي لم يقتصر اضطهادها على المسلمين فحسب، بل امتد لكل من تصمه تلك المحاكم بالهرطقة وفساد المعتنق الديني في ميزانها - ومن ضحايا تلك المحاكم من العلماء: البولندي نيكولاوس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus، والإيطاليون جاليليو جاليلي Galileo Galilei وجيرولامو كاردانو Gerolamo Cardano وجوردانو برونو Giordano Bruno، وعوقب الأخير بالموت حرقًا!
ويعكس تاريخ تلك الأزمنة وتشريعاتها وسياساتها إجمالًا ظلامية وجاهلية تحررت منها أوروبا فعلًا بدخول عهد التنوير، الذي كانت أبرز سماته التحرر من السلطان الكنسي، وكوسيلة وقائية تضمن عدم تكرار ممارسات تلك الحقبة المظلمة، بدأ التيار الفكري الأوربي الجديد يتخذ موقفًا عدائيًا لا من الأفكار والتصورات "الكَنَسيّة" التى سادت قبلًا، بل من مبدأ الأفكار والتصورات "الدينية" على الإطلاق دونما تمييز!
ثم تجاوز العداءُ الأفكارَ والتصوراتِ الدينية إلى منهج التفكير الديني بجملته وعلى الإطلاق، وتفتق توجه عام لابتداع مناهج ومذاهب فلسفية فكرية الغرض الأساسي منها معارضة ومعاندة الفكر الديني، والتخلّص من مبدأ التأليه عامة بعد مبدأ تأليه سلطان الكنيسة خاصة.
ولأنه لا مَفَرّ من مبدأ الألوهية اللازم في خِلقة الوجود، تجدهم مَلَؤوا فراغه بتأليه العقلانية أو النسبية أو العلم التجريبي، عِوضًا عن الكنيسة أو المرجعية الدينية عامة، وبهذا نفهم الأسباب الحقيقية لجنوح الفكر الغربي/ أو جموحه لتبنّي أفكار التطوّر الدارويني بوصفه عقيدة فكرية لا مجرد نظريّة بحثية، وُظِّفَت لتبرير الوجود تبريرًا لا يبقى معه ثمة داعٍ لمبدأ الألوهية وما يترتب عليها من مبدأ "الحق الثابت" أو "المرجعية المقدّسة" التي يفيء إليها الجميع، وبدافع الرغبة في التملّص من وثاق الكنيسة وأثر الدين "الأَفْيُوني"، وإطلاق الشهوات الجامحة والأهواء الشاردة من كل قيد أدبي ذي صبغة دينية.
ولعله يتضح كذلك كيف أن عقلية المستشرقين والمستعربين التي نشأت في تلك البيئات وأُشربت ذلك التاريخ، راحت تعرض مقارنات سطحية وجوفاء بين مظاهر الإجحاف والممارسات القمعية بالهيئة والتنفيذ الأوروبي الظلامي، وما بدا أنه متقاطع معها في القسوة من تشريعات الإسلام كعقوبات الحدود.
مختلف الفلسفات والعلوم الغربية نبتت متفرّعة عن ومتمرّدة على عدّة عوامل أكبرها جمود السلطوية الكنسية الفكرية والركود التَّبَعي لها
وكذلك راحت ترسم تصورات لمفهوم وتطبيقات الجهاد الأكبر في الإسلام بوصفها مرادفة لآثار اضطهاد الكاثوليك للبروتستانت عندما استتب الحكم الكاثوليكي، مع أن تاريخ فتوحات المسلمين يشهد بعكس ذلك تمامًا، وكذلك راحوا يزاوجون بين تصور وتطبيق نظام الاستعباد الأوروبي ونظام الرق في الإسلام، على ما سبق بيانه في السؤال الأول في اسم الله "الحق".
والخلاصة أنّ مختلف الفلسفات والعلوم الغربية نبتت متفرّعة عن ومتمرّدة على عدّة عوامل أكبرها جمود السلطوية الكنسية الفكرية والركود التَّبَعي لها، وكان هدفها الأساسي في بادئ الأمر نقض مُسلّماتها من خلال الاعتماد على العقل والمنطق والحسّ والتجريب وإعلاء مكانة المادي والمشهود والمباشر.
وبالتالي فمنهجهم العدائي متسق مع الظروف الدفاعية التي اصطبغت بها بيئتهم ونفسيّاتهم وأهدافهم، أما في تصوّر الإسلام وشرعه، فلا حاجة لكل تلك الحروب ولا داعي لمثل تلك النزعات ولا وجه لكل تلك العداوات؛ لأنّ الموازين العقلية والموضوعة لحركة العقل عندنا ليست من تشريع بشر قاصري الرؤية ومُغرضي المقاصد، بل هي من تشريع رب العالمين كلهم وخالق المخلوقات كلها، فالعقل مِن خَلقِه، والعِلْم بِهَدْيِه، والبصيرة على نوره - جل وعلا.
بناء على كل ما سبق، يتضح لنا سبب منشأ مقولة "الدين أَفيون الشعوب" وذيوعها في فلسفاتهم، ومدى خطأ سحبها وإسقاطها عندنا على دين الإسلام، وأوّل من أطلق تلك المقولة هو كارل ماركس، الفيلسوف الألماني مؤسّس الماركسيّة، الذي كان يرى أنّ أثر الدين – بالمفهوم والتطبيق السائد عندهم آنذاك - يشبه أثر الأَفْيون على المريض: يُخدِّر شعوره بالمعاناة ويحيطه بوَهْم الراحة، ولكنه يقلّل أيضًا من إرادة البقاء عنده ومن استعداده لمجابهة الحياة الجائرة التي أجبرتهم الرأسمالية أن يعيشوها.
وثمّة تفسير آخر لتلك المقولة مفاده أن ماركس كان يقارن الأرباح التي يجنيها المتاجرون بالدين – ببيع صكوك الغفران وما أشبه - بتلك التي يجنيها تجّار الأفيون! ونَصُّ المقولة الكامل كما وردت في كتابه (نقد فلسفة الحق عند هيجل): "الدين زفرة الإنسان المَسحُوق، وروح عَالَمٍ لا قلبَ له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طَرَدَ منها الروح، الدين أفيون الشعب"
إن كان ثَمَّة أفيون فهو الكفر والإلحاد قطعًا، ثم الأديان الباطلة تبعًا بدرجات، وليس الدين الحَقَّ بحال؛ لأنّ الأفيون والمخدّر والمسكّن كلهم يعزلون المرءَ عن الشعورِ ويعطّلون قدرة العقل على عَقْلِ ما حوله
والحقّ أنّه إن كان ثَمَّة أفيون فهو الكفر والإلحاد قطعًا، ثم الأديان الباطلة تبعًا بدرجات، وليس الدين الحَقَّ بحال؛ لأنّ الأفيون والمخدّر والمسكّن كلهم يعزلون المرءَ عن الشعورِ ويعطّلون قدرة العقل على عَقْلِ ما حوله، حتى لا يُحسّ صاحبهم بالوجع ولا يفكّر في كيفية مجابهة الشدائد، لكنهم لا يعالجون سبب الوَجَع من جذوره ولا يحلّون الشدائد من أصولها، أما الدين الحقّ فيُورث صاحبه الشعور الحقيقي بالسكينة والانسجام مع طبائع الوجود، ويشحذ فكره للنظر في عاقبة أمره وأخذ مسؤوليات وجوده بقوّة، ويبعث فيه إرادة لا تَهِنُ؛ لأنّها تستمد وقودها من الإيمان بالله تعالى، والله تعالى ثابت باقٍ لا يتبدّل ولا يتحوّل - سبحانه - وفرق بين تنميل الشعور والشعور بالسكينة، وبين إسكار العقل وإعماله.
فكيف يستوي الدين الذي يحضّ متّبعه على إعمال عقله وينهاه عن كل ما يَخمُر العقل ويُسكِر الروح، مع أي نوع من الأفيون المادي أو المعنوي الذي يقوم على عكس ذينك؟!
بل إن الذي لا يؤمن بالله تعالى ولا بالآخرة والحساب تبعًا، هو من يعاني في إيجاد معنى للحياة ودافعًا فيها بالرغم مما يعلمه من النهاية البائسة التي تنتظره والتي تجعل ما قبلها هباءً منثورًا، ولذلك نشأت الفلسفات العدمية وكثر الانتحار وسط الكفّار والملحدين، ثم أصحاب الديانات الباطلة، ثم أصحاب التشوّهات والخلل في فهم الدين الحقّ، ولا تجد ذلك أبدًا عند مسلم إسلامًا صحيحًا ومؤمن إيمانًا صادقًا، فمَن – إذن - ضحيّة الأفيون ومَن المسحوق؟!
"إذن يوم تتأخر أوروبا - لأن الكنيسة قادتها - يكون كلامًا منطقيًّا، ويوم تتقدّم أوروبا بالتحرر من سلطانها يكون كلامًا منطقيًّا؛ لأنها حجّرت على العقول أن تبحث وتجرّب، وهذا سبب منطقي لتأخر الحياة، لكن العيب أنك حمّلت المسيحية وِزر الكنيسة ونهجها، وحَمَلت المسيحية على الأديان كلها، وحملت الإسلام على أنه دين كتلك الأديان، في حين كان يجب أن تدرس طبيعة كلٍّ على حِدَة، وتعرف حقيقته ومنهجه" [الإسلام عقيدة ومنهج: الشعراوي]