عادة ما ينشغل الناس بأمهات العبادات ولا سيما تلك الموسمية وينهمكون بها انهماكا روتينيا فيبالغون في بعض ما يتعلق بها من مظاهر ربما أشغلتهم عن حقيقتها والثمرة المرجوّة منها، بل ربما أصبحت هذه العبادات كالماراثون فتنقطع أنفاسنا فيه حتى إذا شارف انتهاء موسمها - كما الحج أو فريضة رمضان - انخلعنا من ربقتها وتهالكنا على إثرها ليتكاسل الواحد منا عن تأدية السنن ناهيك عن الفرائض التي تُؤدى ما بين كسل وتثاقل.
وفي خضم هذا كله ننشغل عن عبادات ربما هي صغيرة في نظرنا وبحساباتنا البشرية لكنها عند الله عظيمة، يعم أثرها القلوب قبل الوجوه وتميط الأذى عن دروبها كما يميط أحدنا الأذى من دروب خطواتنا وأفنية بيوتنا، إنها عبادة جبر الخاطر، وهو خُلق إسلامي عظيم يدل على سمو النفس ورفاهية الحس ورقة القلب وبُعد النظر.
وجبر الخاطر يدور حول صلاح الشيء، فيقال جَبَرَ جَبْرًا وجُبُورًا: صَلَح. والعظم الكسير جبرا وجُبورا وجِبارة: أصلحه ووضع عليه الجبيرة ويقال جبر عظمه أصلح شؤونه وعطف عليه، وجبر الفقير واليتيم: كفاه حاجته، ويقال تجبّر النبتُ والشجر: أخذ يخضَرُّ بعد يُبْس، والنحويون استحبوا أن يجعلوا جبرت لجبر العظم بعد كسره وجبر الفقير بعد فاقته. [لسان العرب]
المقصود بجبر الخاطر مداواة القلب، ويتمثل في المبادرة بمساعدة كل من تعرض لأي خطر أو وجع مادي أو معنوي والعمل على مواساته والتسرية والتخفيف عنه والسعي لحل مشكلته ودفع الأذى والتفريج عنه
والمقصود بجبر الخاطر مداواة القلب، ويتمثل في المبادرة بمساعدة كل من تعرض لأي خطر أو وجع مادي أو معنوي والعمل على مواساته والتسرية والتخفيف عنه والسعي لحل مشكلته ودفع الأذى والتفريج عنه.
وجبر الخواطر إنما نتعلمه من شرعنا الحنيف وقد رسم معالمه لنا القرآن الكريم؛ فعلى موائده ننهل الرفق واللين وتطييب الخواطر وجبرها والمسح على الجراح ومداواتها، منه نتعلم مساندة الضعيف وشد أزره والتيسير في مواطن العسر وبث الأمن في روح وقلب المضطرب الخائف، فانظر لشواهده في آي الله عز وجل في كتابه الكريم:
1. في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، فقد جاءت حادثة الإسراء والمعراج بعد عام الحزن الذي فقد فيه حصنه الذي يمنع القوم عنه عمه أبا طالب، وزوجه (أمّنا السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها) التي واسته في نفسها ومالها، جاءت حادثة الإسراء والمعراج لتمسح دماءه الطاهرة التي سالت من قدميه الشريفتين ولتكون بلسم جراحه بعد أن شُجّ رأسه - صلى الله عليه وسلم - عندما توجه إلى الطائف يدعو أهلها للإسلام، فكانت الجبر والنصر والأمل والفرج من جبار السماوات والأرض والذي إذا مسّ جبره قلبا ما بقي بعد ذلك للكسر أدنى أثر أو ذكر.
2. في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15]، فقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: "يقول تعالى ذاكرًا لطفه ورحمته وعائدته وإنزاله اليسر في حال العسر: إنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق؛ تطييبًا لقلبه، وتثبيتًا له: إنك لا تحزن مما أنت فيه، فإن لك من ذلك فرجًا ومخرجًا حسنًا، وسينصرك الله عليهم، ويعليك ويرفع درجتك، وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع..." [ابن كثير، عمدة التفسير]
3. وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ} [القصص: 85]، أي رادك إلى مكة كما خرجت منها مهاجرا " [ابن كثير، عمدة التفسير]
الكثير منا لا يحتاج في مصابه غير تربيتة على كتف أو ابتسامة في وجهه صادقة تُسري عنه ما يجد من مرارة الفقد أو الألم أو الجوع والحرمان
وتأمل في أقوال نبيك وأفعاله وهو يمسح عن القلوب وَهَنِها وعن الروح حزنها، فتجده يواسي الحزين ويجبر الكسير ويؤصل لهذه العبادة لمن كان به مقتديا وعلى أثره وخطوه سائرا.
1. فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم وليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"، [المستدرك على الصحيحين] وورد عن سفيان الثوري قوله: "ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم"
2. وتأمل ما فعله عليه السلام مع صغير فقد طائره، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير يا أبا عُمَير ما فعل النُّغَيْر". [صحيح البخاري]
3. وتأمل ما يرويه جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - عن رسول الله عندما استشهد أبوه في أُحد: "قال يا جابر مالي أراك منكسرا؟ قال: قلت: يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا، قال: أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وكلم أباك كفاحا فقال يا عبدي تمن علي أعطك قال يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية..." [سنن ابن ماجه]
4. وتأمل فيما يقصه حذيفة رضي الله عنه: "لقد رَأَيْتُنَا مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ألا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يوم الْقِيَامَةِ فَسَكَتْنَا فلم يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ ثُمَّ قال ألا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يوم الْقِيَامَةِ فَسَكَتْنَا فلم يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ ثُمَّ قال ألا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يوم الْقِيَامَةِ فَسَكَتْنَا فلم يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ فقال قُمْ يا حُذَيْفَةُ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ فلم أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ قال اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ ولا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ فلما وَلَّيْتُ من عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي في حَمَّامٍ حتى أَتَيْتُهُمْ فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ فَوَضَعْتُ سَهْمًا في كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ولا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ فَرَجَعْتُ وأنا أَمْشِي في مِثْلِ الْحَمَّامِ فلما أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ فَأَلْبَسَنِي رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من فَضْلِ عَبَاءَةٍ كانت عليه يُصَلِّي فيها فلم أَزَلْ نَائِمًا حتى أَصْبَحْتُ فلما أَصْبَحْتُ قال قُمْ يا نَوْمَانُ" [صحيح مسلم]
في مثل هذه الشواهد السابقة من القرآن الكريم والسيرة النبوية مواقف ودروس وعبر واقع حالها يحدثك عن جبر الخاطر ولو كان في فضل عباءة أو رداء لك تغطي به أخاك فتقيه من برد أو تستره من لظى الدنيا ووطيس حوادثها، فربما الكثير منا لا يحتاج في مصابه غير تربيتة على كتف أو ابتسامة في وجهه صادقة تُسري عنه ما يجد من مرارة الفقد أو الألم أو الجوع والحرمان.
أعمال الإنسان مُناطة بالقلب والقلب إن صَلُح صلح الإنسان وسائر جسده، وهل هناك أخطر من أذية القلب وكسره وتعكره
ومن أسماء الله تعالى "الجبار" ونحن نتعلم أسماءه سبحانه لنتعبد ونتخلق بها، فالإنسان يبحث عن نفسه وحقيقتها في أسماء الله تعالى فينظر ما حظه منها مثل الرحمن، الرحيم، العدل، ولكي نتخلق باسم الجبار لا بد أن نفهم الاسم لنتصف به، فمن معاني الجبار: "أنه يَجْبر كسرهم، ويكفيهم أسباب العيش، ويَسُدُّ خَلَّتَهم، ويستر زَلتهم، ويرحم ضعيفهم، ويجبر المصاب بالأجر والثواب والعِوَض من عنده، ويُسَلّيهم ويُسَكِّن قلوبهم حتى ترضى وتُسلّم" [سلمان العودة، مع الله جلّ جلاله الاسم الأعظم]
فحظ العبد المسلم من هذا الاسم أنه إذا رأى منكسرا يجبره على قدر استطاعته، وحسبه في ذلك أن يستخدمه الله لجبر الكسور، وتأمل قول كعب بن مالك عن طلحة وأثر فعله في قلب مالك بن كعب رضي الله عنهم وقت أن تاب الله عليه بعد تخلفه عن غزوة تبوك، فكان طلحة أول من قام مهنئا مستبشرا فرحا بذلك، فيقول مالك رضي الله عنه وأرضاه: "والله لا أنساها لطلحة"
فأعمال الإنسان مُناطة بالقلب والقلب إن صَلُح صلح الإنسان وسائر جسده، وهل هناك أخطر من أذية القلب وكسره وتعكره، فَسَعيُك في إصلاح قلب وجبر كسره وإماطة الأذى عن دروبه ومسح الحزن من ربوعه كي يستطيع تأدية واجباته كما يحب الله ويرضى لهي أجر عظيم لك عند الله، فإن كان لجبر الخاطر هذا القدر من المكانة والأجر فعدم كسر الخاطر والتعرض له بالإيذاء أوجب ومن باب أولى، ومن جَبَرَ جُبِر.