تصاعدَت في الأشهر الأخيرة عمليات المقاومة الشعبية في الضفة الغربية، وأصابت المستويات السياسية والعسكرية والأمنية في الكيان الصهيوني بالجنون الحقيقي، الأمر الذي بدا في سلوك قوات جيش وأمن الاحتلال داخل المدن الفلسطينية، وعلى إثره أقر "الكنيست" الصهيوني مشروع قانون - بالقراءة الأولى - لإعدام مُنَفِّذي العمليات الفلسطينيين.
ظواهر كثيرة في الكيان الصهيوني تشير إلى نجاح فِرَق ومجموعات مثل "كتيبة جنين" و"عرين الأسود" في إحداث التأثير المطلوب، لمستوى وصل إلى تهديد استقرار حكومة نتنياهو التي شكلها من أحزاب وشخصيات تقع في أقصى اليمين الصهيوني، وأدى إلى قرارات وتصريحات من أكثر من مستوىً سياسي وعسكري في الكيان، وقرارات من الحكومة و"الكنيست" إلى زعزعة صورة الكيان باعتباره "الدولة الديمقراطية الوحيدة في بحر من التوحُّش" كما تروِّج أدوات الدعاية الصهيونية في عالمنا العربي.
والحقيقة أن التفاصيل كثيرة فيما يخص هذا الأمر، والذي أهميته فوق ما يتصور الكثيرون؛ فربما تُعد أنشطة هذه الكتائب والمجموعات في تأثيرها إحدى أهم الظواهر التي شهدتها القضية الفلسطينية في السنوات العشرين الماضية، ولكننا نريد أن نقف في هذا الموضِع من الحديث على نقطة من هذه التفاصيل الكثيرة، لها أهمية كبيرة بما لها من مركزية، وهي قضية القدس؛ لأن الكثير من هذا الحِراك الذي ثبت أن له جذر شعبية قوي، وليس جهدًا فصائليًّا فحسب، يعود إلى تصاعد الانتهاكات الصهيونية للقدس والمقدسات فيها.
تُعد أنشطة هذه الكتائب والمجموعات في تأثيرها إحدى أهم الظواهر التي شهدتها القضية الفلسطينية في السنوات العشرين الماضية
وتعود أهمية هذه القضية إلى أمرَيْن: الأول/ مساهمتها في تفجير الأوضاع تحت أقدام الاحتلال - كما نتابِع – والثاني/ تحسين موقف القضية الفلسطينية المتراجِع نسبيًّا على المستوى الإقليمي والدولي بسبب الأزمات السياسية والأمنية المتوالية التي يمر بها العالم منذ أكثر من عقد من الزمان، والأزمات الاقتصادية التي تضرب العالم منذ العام 2020م، بسبب اندلاع أزمة "كوفيد – 19" ثم الحرب الروسية الأوكرانية في 2022م.
فـ "كتيبة جنين" و"عرين الأسود"، وغيرها من التشكيلات والأنشطة التي نفذتها أوساط دينية وشعبية، كانت نقطة تفجير رئيسة لها أحداث وقعت في القدس المحتلة .
ومن بين أهمها معركة "البوابات الإلكترونية" التي تفجَّرت في يوليو 2017م؛ عندما وضع الاحتلال الصهيوني بوابات فحص إلكترونية في الحرم القدسي الشريف، بعد عملية فدائية نفذها ثلاثة شبان فلسطينيين من مدينة أم الفحم الواقعة داخل الخط الأخضر، أدت إلى مقتل عُنصرَيْن من شرطة الاحتلال واستشهادهم، وأحداث أخرى مثل أحداث حي الشيخ جَرَّاح الذي يقع في الجانب الشرقي للبلدة القديمة، في فبراير من العام 2021م.
واخترنا هذَيْن الحدثَيْن لسبب مهم، وهو أن كلَيْهما انتهى بانتصار إرادة المقاومة الشعبية، التي كانت طليعتها مجموعات مثل هذه، لكن الكتلة الأعظم فيها كانت من شباب وشابات، ورجال ونساء، وعلماء دين مسلمين، ورجال دين مسيحيين، ولاقت الكثير من هذه الأحداث اهتمامًا كبيرًا من المجال الإقليمي والعالمي، بالذات فيما يتعلق بأزمة سُكَّان حي الشيخ جرَّاح، مما اضطر حتى قوى كانت تساند الكيان الصهيوني بصورة تلقائية، بل وشاركت في جريمة تأسيسه، مثل دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، إلى تغيير مواقفها مما يجري في فلسطين.
الانتهاكات وجرائم الكيان الصهيوني فاقت أي مستوىً يمكن التضليل عليه أو تبريره، وأبرز مثال على ذلك، جرائم اقتحام مخيمات اللاجئين، وهدم المنازل على رؤوس أصحابها، وقتل بعض أصحابها
فهذا الزَّخَم، والذي نراه حتى في مستويات سياسية دولية تشمل الأمم المتحدة، لم يكن إلا لإحساس من المجتمع الدولي بأمرَيْن: الأول/ هو أهمية القدس، وما تضمه من مقدسات، بالنسبة لأصحاب الديانات السماوية الثلاث، وثانيًا/ الجانب الإنساني في الموضوع؛ فالانتهاكات وجرائم الكيان الصهيوني فاقت أي مستوىً يمكن التضليل عليه أو تبريره، وأبرز مثال على ذلك، جرائم اقتحام مخيمات اللاجئين، وهدم المنازل على رؤوس أصحابها، وقتل بعض أصحابها!
إلا أنه من باب أولى البناء على هذا الزَّخَم من جانب المسلمين أنفسهم، وهو ما يتطلب إطارًا إعلاميًا وسياسيًا واسع الانتشار، تعيد تذكير الرأي العام العربي والإسلامي بأن القدس هي قضية المسلمين الأولى في زمننا هذا.
والمؤسف أننا في هذا الإطار، بحاجة إلى تذكير الكثير من المسلمين بأهمية القدس والمسجد الأقصى في عقيدتنا.
المفترض أننا في مثل هذه المواضِع من الحديث نقول: "وإننا لسنا بحاجة إلى التذكير بأهمية ومكانة القدس والمسجد الأقصى عند المسلمين؛ فهي موئل قبلة المسلمين الأولى، ومسرى رسول الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - في رحلته التاريخية التي عَرَج فيها إلى السماوات العُلا "، إلا أنه – وللغرابة بالفعل – هناك الكثير من الغبار المحيط بذهنية عوام المسلمين في هذه القضية.
إننا أمام معركة مهمة للغاية من معارِك الوعي، معركة يعيد أصحابها الإحياء والتأكيد على أن قضية فلسطين هي قضية المسلمين كافة، وأن قضية القدس، هي قضية المسلمين الجامِعَة
فقضية احتلال اليهود للقدس، وسيطرتهم على المسجد الأقصى، وبالرغم من أنها حدث تاريخي لم يحدث منذ أكثر من ألفَيْ عام، وبالرغم من ديمومة سيطرة المسلمين على المدينة المقدسة طوال الفترة التي تلت الفتح الإسلامي لفلسطين في عهد عمر بن الخَطَّاب - رضي اللهُ عنه - في بدايات ظهور الإسلام، باستثناء بعض العقود التي سيطر فيه الصليبيون على المدينة، نقول بالرغم من أن ما يجري فيها الآن، هو أحداث تاريخية فعلًا، إلا أننا نقف أمام حالة من التبلُّد الغريب الناجم عن عدم فهم حقيقي لا لأهمية القدس والمسجد الأقصى في عقيدة المسلمين، ولا خطورة ما يجري فيها، ولا مركزيته التاريخية.
وبالتالي فإننا أمام معركة مهمة للغاية من معارِك الوعي، معركة يعيد أصحابها – وكلنا أصحابها – الإحياء والتأكيد على أن قضية فلسطين هي قضية المسلمين كافة، وأن قضية القدس هي قضية المسلمين الجامِعَة؛ فلا يوجد خلاف بين أي مذهب أو جماعة او حتى اتجاه سياسي داخل جماعة المسلمين أو أمة الإسلام، حول قيمتها في عقيدتنا.
وبالتالي فإنه من الضروري إشعار المسلمين في كل مكان حول العالم، بتطورات الحدث أولًا بأول، وأنها الأولوية التي ينبغي وضعها نُصْبَ عَيْنَيْ أي مسلم، ونُصْبَ عَيْنَيْ أي جهد يقدمه في سبيل الله تعالى.
ومن الأهمية بمكان هنا الإشارة إلى ضرورة توظيف الحدث الآني على الأرض؛ حيث يسقط شهداء فلسطينيون كل يوم في مختف أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية، ويهدد الوزراء والقادة الصهاينة بهدم المدن والمخيمات الفلسطينية على رؤوس قاطنيها، كما في تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، التي دعا فيها إلى "محو بلدة حوارة من الوجود"!