إنّ البحث عن الوفاق العالمي والتقارب بين الشّعوب ليس أمرا جديدا في عالم الدبلوماسيّة والعلاقات الدوليّة، بل هو هدفٌ ناضلت من أجله أجيال من المفكرين والسياسيين ودُعاة الحوار الثقافي، وسارت على منواله المنظمات الدوليّة بنشر خطابات مختلفة ومنها «التنوّع الثقافي».
وعمادُ البحث عن الوفاق بين جميع شعوب الأمم، يجعلنا ننظر إلى علاقتنا بالآخر المختلف باعتباره شرطا من شروط وجودنا لأنّ أيّ مجتمع لا يستطيع العيش دون علاقات مع المجتمعات الأخرى حتّى وإن كانت تختلف عنه في العرق واللغة والمعتقد والثقافة. فما من إنسان في هذا الوجود يستطيع العيش منفردًا، وبتعبير الشّاعر الألماني غوته:»ليس ثمّة عقاب أقسى على المرء من العيش في الجنّة بمفرده، فالمؤكّد أنّ الوجود من دون الآخرين يبدو ضربا من المستحيل». لذلك شكّلت الصّراعات بين الأمم خلال الألف سنة الماضية صورة معاكسة للطبيعة البشريّة التي وصّفها ابن خلدون بـ»الطابع المدني»، فمثلما يكون الإنسان مدنيّا بطبعه بمعنى أهليّته للتواصل مع غيره من البشر تكون المجتمعات مدنيّة في احتكامها إلى ضرورة التواصل الدّولي.
وإذا كانت الثقافة مثلما أشرنا هي القوّة الفاعلة في هذا التواصل فإنّ اعتبارها قوّة ناعمة منذ عقود يسّر لقوى عظمى امتلاك أدوات الجذب والإقناع بأنماط تفكيرها وعيشها أكثر ممّا وفّرته لها القوّة الصلبة التي اعتمدت على الآلة العسكريّة. ذلك ما ترجمه الواقع الدولي منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية وإبّان دخول العالم في تجاذب قطبي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، حيثُ اكتشف السياسيّون في تلك المرحلة أنّهم بحاجة إلى وسيلة أكثر فاعلية من طاولات المفاوضات، وأدركوا ما للثقافة من دور في التأثير على الشّعوب وقدرة على تشكيل العلاقات الدوليّة.
لم يعد من السّهل قبول منطق استقواء دولة على أخرى، فقد تقلّصت الفوارق الفكريّة والنفسيّة والاعتقاديّة بين البشر، بسبب انفتاح الشّعوب على بعضها البعض
الثقافة وزن دبلوماسي جديد:
لقد فكّرت القوى العظمى كثيرًا من خلال مراكز أبحاثها ومفكّريها في كيفيّة استعادة مكانتها أو مواجهة التّحديات الجديدة دون اللّجوء إلى استخدام القوّة الصّلبة، وهو ما أفرز منذ بداية التسعينيّات نمطا جديدا من أنماط الدّبلوماسيّة الدوليّة وهو «الدبلوماسيّة الثقافيّة»، ولم يتمّ الاهتداء إلى هذا النّمط بفضل تراجع المواجهة العسكريّة بين القوى العظمى فقط، وإنّما لظهور معطيات جديدة قلبت منطق «العلاقات» و»طبيعة الصّراع».
ففي عالم تشهد فيه وسائل الاتّصال ثورات عقب ثورات لم يعد من السّهل قبول منطق استقواء دولة على أخرى، فقد تقلّصت الفوارق الفكريّة والنفسيّة والاعتقاديّة بين البشر، بسبب انفتاح الشّعوب على بعضها البعض، وانتقال العالم من تاريخ الإعلام التقليدي إلى «الإعلام الرقمي» فصار العالم أشبه بقرية صغيرة. وقد ساعد هذا الامتدادُ الاتصالي في التقارب بين الشّعوب، والأهم من ذلك أنّه أعطى قوّة جديدة للثقافة. إنّنا حين نؤكّد على دور الثقافة في العلاقات الدوليّة فذلك لنشير بأنّ الدول المتقدّمة بالخصوص أدركت أهمية الصناعات الثقافيّة في مبادلاتها التجاريّة مما سمح لها بتوظيفها في دبلوماسيّتها الناعمة، ألم يقل ستيف جوبز بأنّ التزاوج بين التكنولوجيا والفنون والإنسانيّات هو ما جعل قلب آبل يُغنّي؟ ذلك أنّه اعتقد بأنّ التكنولوجيا لا تتقدّم ولا تنمو بواسطة علوم الحاسوب وإنّما من خلال تواصل تلك العلوم بالعلوم الإنسانيّة والفنون.
غالبا ما تكون الثقافة مؤثّرة في صناعة الصّورة التي تحتفظ بها الدول عن بعضها البعض، وتساهم أيضا في تصحيح الانطباعات ونبذ الأفكار المسبقة والمغلوطة، لأنّ تحقيق التفاهم يتطلّب التعرّف على الحقيقة. ويزداد أثر الثقافة كلّما تمكّنت الدول من أدوات الجاذبيّة والإقناع، فتتحوّل المثل التي تنادي بها عبر دبلوماسيّتها الثقافيّة إلى أفق خلاص لبعض الشّعوب أو طموحا لبعضها الآخر. لننظر في تلك المرحلة التي عاشتها أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية حينما تمّ جذب الشباب الأوروبي الذي كان يشرئبّ إلى الموسيقى خلف جدار برلين، وكيفَ أصبحت المثل الأمريكيّة في الحرية أملاً للشباب في الصين عند حادثة تيانانمين حين بنوا نسخة من تمثال الحرية، وغيرهم من شباب العالم الذين رأوا في النمط الفكري الأمريكي خلاصًا لأوضاعهم فتبنّوا الموسيقى الأمريكيّة ونمط اللباس الأمريكي والأكلات الأمريكيّة، وفي المقابل لننظر في الأثر الذي تركته أمريكا في نفوس الشباب إثر حرب الأسابيع الأربعة في العراق عام 2003 حين كسبت الولايات المتحدة الأمريكيّة الحرب بإسقاط نظام صدّام، ولكنّ طغيان الآلة العسكريّة أثّر في تراجع صورتها وشعبيّتها في العالم، وحتّى في البلدان التي شاركت حكوماتها في الحرب. ذلك أنّ شنّ حربٍ على العراق بائتلاف صغير من الدّول، ودون غطاء واسع للشرعيّة الدوليّة، ساهم في زعزعة صورة أمريكا في العالم، فقد انتصرت الآلة العسكريّة وهزمت «المثل» الأمريكيّة، ولم يكن من اليسير على الولايات المتّحدة الأمريكيّة أن تستعيد قوّتها التأثيريّة ثقافيّا في العالم، إذ كما يقول جوزيف ناي سيكون»كسب السّلام أصعب من كسب الحرب».
تبادل الأفكار والمعلومات وكافّة السلع الرمزيّة دون إكراه هو وسيلة الدبلوماسيّة الثقافيّة، وهذا التبادل يضمن بقاء تأثير أيّ دولة على دول أخرى أكثر من الهيمنة العسكريّة أو الاقتصاديّة
إنّ تبادل الأفكار والمعلومات وكافّة السلع الرمزيّة دون إكراه هو وسيلة الدبلوماسيّة الثقافيّة، وهذا التبادل يضمن بقاء تأثير أيّ دولة على دول أخرى أكثر من الهيمنة العسكريّة أو الاقتصاديّة، فلو قارنّا بين أثر غزو روما لليونان عسكريّا وغزو اليونان لروما ثقافيّا لوجدنا أنّ الحضور الروماني سريعا ما اندثر ولم يُخلّف أثرا في الشّعب اليوناني بينما دام التأثير اليوناني في المجتمع الروماني. لذلك تسعى الدّول إلى تفقّد موارد قوّتها الناعمة من فترة إلى أخرى، ونقصد بذلك أن تهتمّ أكثر بوسائل الإعلام وبالأدوات الثقافيّة والمساعدات في مجالات التعليم بالخصوص في شكل تقديم منح للراغبين في مواصلة تعليمهم الجامعي أو في مساعدة دول العالم على تنفيذ مشاريع تعليم الأطفال في الدول الفقيرة، فتكون للقوّة الناعمة قدرة على الجاذبيّة والتأثير في وقتٍ واحدٍ، وهو ما لا تستطيعُ القوّة الصلبة تحقيقه. وقد يذهب بعض الباحثين إلى القول بأنّ القوّة الصلبة قادرة أيضا على التأثير في الشّعوب من خلال استخدام وسائل التهديد والرشاوى وشراء الذّمم، إلاّ أنّ هذه الوسائل السيّئة لا تنجز ما ينجزه التفاعل الطوعي للشعوب مع الثقافات والأفكار وأنماط السلوك التي تبثّها الدبلوماسية الناعمة لأنّها أكثر إغراء.
لا نعرف إلى حدّ الآن كيف سيتشكّل العالم بعد هذه الأزمات المتتالية التي مرّ بها ولكنّنا ندرك أنّنا مطالبون كعرب باستلهام التجارب الناجحة للقوّة الناعمة، والمضيّ في تفعيلها
أين نحن من الدبلوماسيّة الثقافيّة؟
أدركت على امتداد مسيرتي الدبلوماسيّة والثقافيّة أنّ النوايا الحسنة غير كافية لتفعيل دور التبادل الثقافي إن لم تتبعها سياسة ثقافيّة لأيّ دولة من أجل إحكام قوّتها الناعمة، وكثيرًا ما عبّرت عن انشغالي بوضع صرح ثقافي عربي، ألا وهو معهد العالم العربي بباريس باعتباره أداة من أدوات الدبلوماسيّة الثقافيّة، وحزنت لما آل إليه من تراجع وضعفٍ في تحقيق الأهداف التي بُعث من أجلها. وكم أسهبتُ في تناولِ النتائج الوخيمة لمحدوديّة إيمان بعض الدول العربيّة بجدوى الثقافة في نهضة الشّعوب بالداخل وفي أثرها على تغيير صورة العرب في الخارج، ولكنّ الوضع العربي اليوم لا يساعد البتّة على خياطة قوّة ناعمة بقماشة مهترئة!
إنّ السياسة الدولية سريعة التغيير، ونحن لا نعرف إلى حدّ الآن كيف سيتشكّل العالم بعد هذه الأزمات المتتالية التي مرّ بها وآخرها استمرار الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة، ولكنّنا ندرك أنّنا مطالبون كعرب باستلهام التجارب الناجحة للقوّة الناعمة، والمضيّ في تفعيلها. ثمّة تحوّلات كبرى تستدعي النظر، فأثر الدبلوماسيّة الثقافيّة الغربيّة يتراجع قياسا بنموّ دبلوماسيّة الصين التي تعمل على إعادة صياغة «قوانين اللعبة»، ويبدو أنّ التوسّع الصيني في العالم وخاصّة أمام انحسار دور الولايات المتّحدة الأمريكيّة، يعكس بداية الاستعداد إلى انتقال قيادة النظام العالمي إلى الضفة الشرقيّة، وقد منحت السياسة الخارجيّة الصينيّة للموارد الثقافيّة والاقصاديّة دورا مركزيّا في تحقيق هذه الغاية، ومن معالم الذكاء الصيني في إدارة الخطوة الحضاريّة القادمة أنّ الصين لا تقدّم نفسها بديلاً عن الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فهي لا تدّعي إعلان التحدي مع القوّة العظمى التي تهيمن على العالم، بقدر ما تتقدّم بنعومة نحو هدفها، وقد انعكس ذلك على خطابها الذي جذب نخبا وشعوبا كثيرة في العالم، حيثُ تبنّى خطابها السياسي القول بوجود عالم متعدّد الأقطاب لا تُحتكر فيه القيادة ولا الأنماط الثقافيّة ولا تُحقّر فيه ثقافات الآخر مقابل مركزيّة الثقافة الغربيّة. لذلك تقدّم الصين نفسها باعتبارها قوّة مضافة للتطوّر في العالم وليست خطرا يهدّد السلم العالمي.
إنّ هذا الدّور الصيني يُذكّرني بما لعبته الحضارة العربية الإسلاميّة في أزهى مراحلها، حين كان العرب يهبون الإنسانيّة علومهم وآدابهم، فانتعشت حركة الترجمة بين العرب وغيرهم من الشّعوب، لما تفطّن إليه العرب من أثر للتبادل الثقافي في تطوير الحضارة الإنسانيّة. وسارع الغرب في أكثر من مرحلة تاريخيّة إلى الاستفادة من التراث الفكري العربي، ذلك ما شهدته طليطلة على سبيل المثال في القرن الحادي عشر للميلاد، حين أصبحت مركزا للترجمة يقدّم للعالم الغربي ثمرات التأليف العربيّة فتأسّس فيها «معهد المترجمين الطليطليين»، فالترجمة تلعب دورا مهمّا في نماء الفنون والتقنيات وأنماط الحياة، لأنّها أشبه بجسر تعبر منه السلع الثقافيّة بشتّى أنواعها وتزيد في تمتين الصّلات بين الشّعوب حتّى يتبيّن لها أنّ الغاية من الوجود واحدة وأنّ مصيرنا مشترك. فتبادل السّلع الثقافيّة من شأنه توطيد العلاقات بين المجتمعات الإنسانيّة، وهو ما يكون سدّا منيعا أمام اهتزاز قيم المحبّة والحوار والتفاعل الحضاري. ولكنّ واقع الترجمة في العالم العربي مازال متردّيا، فمن المحتمل أنّ ترجمتنا لآداب الشّعوب الأخرى تشهد إقبالا ونسبًا مرتفعة إلاّ أنّ ترجمة آدابنا العربيّة إلى اللغات الأجنبيّة هزيلٌ جدّا، وما يزال أمامنا طريقٌ طويلٌ لإحداث تطوير لهذا المجال الذي يعدّ من أبرز أدوات صناعة صورة الثقافة العربيّة.
إذا ما أردنا تطوير آفاق هذه الدّبلوماسيّة الثقافية فإنّه لا خيار أمامنا غير فسح المجال أمام النخب الثقافيّة لتقدِّم تصورات وخططا من أجل تفعيل التبادل الثقافي وتزويد الدبلوماسية العربيّة بمنتجات التبادل الثقافي
وإذا ما أردنا تطوير آفاق هذه الدّبلوماسيّة الثقافية فإنّه لا خيار أمامنا غير فسح المجال أمام النخب الثقافيّة لتقدِّم تصورات وخططا من أجل تفعيل التبادل الثقافي وتزويد الدبلوماسية العربيّة بمنتجات التبادل الثقافي، ومن ضرورات ذلك تشريك الأكاديميين، والمؤسسات الأكاديميّة، فالعلوم التي تدرّس في الجامعات ليس غايتها الأساسيّة توفير كفاءات للمجتمع فحسب، بل تأهيل مواطنين يُمارسون قيم الحوار وتبادل الثقافات من أجل نشر التّفاهم مثلما تقوم الجامعات بتوفير منتجات علميّة لها أثرها في العالم. ولا يعني ذلك أنّ الدبلوماسيّة الثقافيّة شأن تختصّ به الأجهزة الحكوميّة فقط، بل للمثقفين والنخب والأدباء والفنانين دور مهمٌّ في تطوير أثرها وجاذبيّتها، ورغم ذلك يظلّ دور الدولة أساسيّا. لذلك كنّا في قطر واعين تمام الوعي بهذا الأمر ومارسنا الدبلوماسيّة الثقافيّة بتميّز ممّا عزّز مكانة بلدنا وتفاعله مع العالم، فكانت تجربة السّنوات الثقافيّة بين قطر وبعض دول العالم علامةً فريدة على نجاح الثقافة في بناء جسر بين الشّعوب، وتعزيز التفاهم من خلال تبادل التجارب الإبداعيّة واستكشاف التنوّع الثقافي والتفاعل الحضاري. وشاركت مختلف المؤسسات الثقافيّة في هذا الاتّجاه، لتمنح الدبلوماسيّة الثقافيّة محتوى متجدّدا في البرامج الثقافية. كما ساهمتْ مبادرات «التّعليم فوق الجميع» و»علّم طفلاً» في تعزيز الروابط الدّبلوماسيّة لما تحمله رسالة التّعليم من تنمية لثقافة السّلم، وعزّز نجاح قطر في تنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، من تقديم الحجّة على دور الرياضة في بثّ الرسائل الثقافيّة التي تدعم القوّة الناعمة.
إنّ العالم يتغيّر من حولنا بنسقٍ سريعٍ، وإذا أردنا أن نتبوّأ المكانة التي تسمح لنا بالمساهمة الفاعلة في الحضارة البشريّة فما علينا إلاّ أن نعيد الاهتمام بدبلوماسيّتنا الثقافيّة ونتعهّد مكاسبها بالتطوير حتّى لا نقف عند نجاحات بعض ما نقوم به، دون أن نستفيد حقّا من ثمار تلك النّجاحات.
كتب ذات صلة بالموضوع
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- صحيفة الشرق القطرية