لا شك أن المؤمن الواعي المدرك لرسالته سواء كان كاتبًا أو مهندسًا أو صاحب عمل حر لا يجب أن يترك الشهر الكريم وأجواءه الحميدة بدون الاستفادة بالتبحر في كنوزه؛ فهو شهر واحد في العام لكنه أفضل الشهور وأحبها عند الله وأعظمها أجرًا ومثوبة وبه من الفضائل ما يسعد به المرء في الدنيا والآخرة لو توجه بقلب الراجي عفو ربه الطامع في رضوانه المشتاق لمغفرته، وتلك في نظري مقومات توبة وقبول وما كان الله ليخيب ظن عبده به فهو معه حين يذكره تجلي ربنا وتفضل علينا.
ونحن اليوم وانطلاقا مع هذه الأجواء الربانية والفضائل الرمضانية والشمائل الإيمانية سنتحدث عن الفرحة.. والفرحة التي نقصدها هي المنحة الربانية لعباده الصائمين كما قال ربنا وبلغ عنه رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه"، وفي رواية: "وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه".
وفي هذا يقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله: أما فرحة الصائم عند فطره: فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصًا عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعًا.
فهذا الشق الأول من الفرحة فرحة الصائم، أما الفرحة الثانية فعند لقاء ربه، فإنها تأكيد على عظمة أجر الصيام والصائم عند الله لما يجده من كرم ومثوبة وغفران ونعيم مقيم وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
رمضان شهر التجرد لله رب العالمين بل إن التجرد الصادق في كل النوايا والأفعال والشعائر يكون ثمرته الفرحة عند الفطر
التجرد نجاة
إن رمضان شهر التجرد لله رب العالمين بل إن التجرد الصادق في كل النوايا والأفعال والشعائر يكون ثمرته الفرحة عند الفطر.. لماذا؟! لأنه لا طعم لطعام بعد صيام إلا بتحقيق الغاية (وهي الشعور بالفقير) كذلك لا طعم لماء وارتواء إلا بتحقيق الغاية أيضًا وكلا الأمرين لا قيمة لهما إلا بالتجرد التام لما أمر الله به واجتناب ما نهي عنه، وإلا فرب صائم لم يأخذ من صيامه إلا الجوع والعطش؛ لأنه أهمل العمل القلبي وانشغل بالظواهر فوقع في المحظور من حيث يظن أنه تقي مخلص، ونحن يقينا لا نشق على قلوب العباد، خصوصًا أن الله تعهد بأن الصوم له سبحانه وهو من يجزي عنه، لكننا نوقظ القلوب والعقول ونحذر من الركود والرياء فنكتب صارخين محذرين أن هذا هو الطريق (التقوى) وتلك معالمه (التجرد)، ومن أراد النجاة فليسلك هذا الطريق فينعم بالقبول دنيا وآخرة وهذا موعود الله لعباده ومن أصدق من الله قيلا.
قلب المؤمن
من تجليات الله على العبد أن يعمق في قلبه الذي يعلم كم هو يتقلب على مدار الساعة يعمق فيه حب الفضيلة في هذا الشهر فتراه عف اللسان سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، قليل الكلام، هادئ الطبع، بشوش الوجه، كل هذا في رمضان؛ لأنه شهر النفحات، والله – عز وجل - رحيم بعباده لطيف بهم عالم بدواخلهم.
قالوا سمعنا وأطعنا
إن الفرحة الدنيوية عند الفطر منبتها ومبعثها هو الاستسلام لأمر الله بالصيام، وتجنب الفحشاء والقول البذيء، وشهادة الزور، فتلك من الفضائل، وأيضا أن من أسباب الفرحة عند الفطر الأنس بمن تحب في جو إيماني؛ فنجد الأسرة كلها صائمة طوال اليوم متعددة الأدوار متعاونة، فالبعض يقرأ ورده القرآني، والآخر يساعد الأم في تجهيز الإفطار، والثالث في عمله وسعيه، والكل على موعد مع التجمع واللقاء فيكون مع الآذان والإفطار والتعجيل به فيحيا الجميع بين فريضة وفضيلة وطاعة لله.
الفرحة في حياة المؤمن تمامًا كما في الدنيا فإنها تتعاظم يوم القيامة، والفرحة الجماعية للطاعات يقينًا تكون كذلك يوم القيامة
إن الفرحة في حياة المؤمن تمامًا كما في الدنيا فإنها تتعاظم يوم القيامة، والفرحة الجماعية للطاعات يقينًا تكون كذلك يوم القيامة، ورحم الله زوجة صالحة كانت توقظ أبناءها يوميًا لصلاة الفجر، وتقول: "لا أريد أن نفترق في الجنة"؛ فهي تعلم حقيقة الحياة وحقيقة دورها وعظمة رسالتها، لذلك تجتهد في الوصول بنفسها وبمن تحب لبر الأمان، حيث الجنة وعد الصدق، ومكرمة الله لعباده، وملتقى الحب في الله، ومثوبة التجرد الصادق له عز وجل.
إننا كمسلمين يجب أن نفتخر بيننا بأن ديننا دين الفرحة، دين الطاعة التي تفتح على القلوب كل الأفراح، وتزيل عنه كل الأتراح؛ فالذكر باب النعيم، وهو كما قال ابن تيمية: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، قالوا وما هي؟ قال جنة الذكر"
وما أعظم الذكر في رمضان فيتحول الشهر لجنان وفرحة وطاعات، فما عسانا أن نشكو بعد ذلك، فقد أوكلنا كل أمورنا أصلًا لله، وهو وحده - عز وجل - المطلع والقادر على تحويل أحزان قلوبنا الموجوعة لأفراح ويسر وحياة طيبة.
ما قيمة الإيمان في القلب والعاطفة ما لم يشعر الغني بالفقير والقوي بالضعيف ومن معه بمن لا يملك إلا القليل
الشعور بالآخرين
من أعظم مقومات الفرحة في رمضان إدخال السرور على قلوب العباد؛ فهو أمر لو تعلمون عظيم، فهناك بيوت يسودها الحزن والفقدان، إما بسبب مادي وضيق ذات اليد، أو بسبب غياب أعمدة البيت، أو رحيل الأب، وهي إجمالا أوجاع، لذلك فما قيمة الإيمان في القلب والعاطفة ما لم يشعر الغني بالفقير والقوي بالضعيف ومن معه بمن لا يملك إلا القليل.
وإننا نجد في رمضان - مع الأسف - الكثير ينشر عبر السوشيال صور موائد الطعام ببذخ، وترى فيها الإسراف الشديد وكأن رمضان شهر الطعام لا التقوى.
والمؤمن النقي هو من يحسب حساب كل شيء، حتى مشاعر الآخرين؛ فالكل ليسوا سواء، وكل بيت مغلقٌ على ما فيه، لذلك فالمسلم للمسلم كالبنيان، وأعظم البنيان أن تشعر بأخيك وجارك وصاحبك وصديقك، فتتفقد أحوالهم ففي ذلك الفرح الأكبر والفوز الأعظم دنيا وأخرى.
ختاما:
رمضان فرحة وجنة ومعية، لكن ليس للجميع، والأمر في الحياة عمومًا صنفان: فريق هُديَ وفريق حقت عليه الضلالة، فريق في الجنة وفريق في السعير، لذلك فعلى المسلم أن يجعل رمضان مزيدًا لاستقامته وإن أصابه الضيق والتقصير، فليكن باب إفاقة وتجديد عهد مع الله.
كذلك عليه أن يسعى في تعميم الفرحة وفق ما يستطيع؛ فالمرء لا يدري بأي عمل صالح يدخله الله الجنة، فلا يحقرن أحدكم معروفًا يراه بعينه صغيرًا، فقد يكون عند ربه عظيمًا والأعمال بالنيات، وعلى كل مسلم بعيد عن ربه غافل عن طريقه معرض عنه، ليغتنم الفرصة، فرمضان باب خير ورحمة وغفران وقرب من الله، فكن قناصًا تنجو، فلا أحد يعلم رمضان القادم من يحياه ومن يكن منا قد فارق الحياة.