حتى لا تتحول حواراتنا إلى “مَكْلَمَة” واختلافاتنا إلى “مُلاكَمَة” (2-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » حتى لا تتحول حواراتنا إلى “مَكْلَمَة” واختلافاتنا إلى “مُلاكَمَة” (2-2)
حتى لا تتحول حواراتنا إلى مَكْلَمَة واختلافاتنا إلى مُلاكَمَة 1-2

تحدثنا بفضل الله تعالى في الجزء الأول من هذا الموضوع عن أدب الحوار والمحاورة، والفرق بين الاختلاف والخلاف. وسقنا نماذج للاختلاف، وسنتحدث بإذن الله تعالى في هذا الجزء عن:

3. ضوابط تحد من مَغبَّة الخلاف:

1. إن ما يحِد من مَغبة الخِلاف هو العقل الراجح، والقلب السليم، والضمير الحي، والإخلاص الذي لا تشوبه شائبة.

2. التحرر من التعصب بأية صورة من صوره، سواء كان تعصبًا لأشخاص أو لمذاهب أو لطائفة أو جماعة.

3. الانتصار للحق في أية جهة كان.

4. حسن الظن بالآخرين، وعدم اتهام نواياهم، وعدم تسفيه آرائهم، قال الإمام الشافعي رحمه الله: "ما ناظرت أحدًا إلا وددت أن الله تعالى أجرى الحق على لسانه"

5. سد باب المِرَاء والبُعد عن اللدد في الخصومة.

إنصاف الخصم من شيم العقلاء، وتقبل النقد الموضوعي البنَّاء دليل على الإخلاص والتجرد

6. الالتزام بأدب الحوار بالتي هي أحسن كما علمنا الشرع.

7. التركيز على نقاط الالتقاء ومواضع الاتفاق والعمل على تعظيمها وجعلها تهيئة للنفوس ومَدخلًا للقلوب.

8. التنبيه على أن الخلاف لا يعني البُغض ولا الكراهية.

9. التأكيد على أن الخلاف لا يبيح العِرض، ولا يحل الغيبة، ولا يكون مُبررًا للقطيعة.

10. أن يفهم الجميع أن الآراء للعرض وليست للفرض، وللإعلام وليست للإلزام، وللتكامل وليست للتلاكم.

11. إنصاف الخصم من شيم العقلاء، وتقبل النقد الموضوعي البنَّاء دليل على الإخلاص والتجرد، ‏قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: ‏"نعوذ بالله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف"

12. اكره الخطأ ولا تكره المُخطئ، ابغض المعصية ولا تبغض العاصي، انتقد القول ولا تنتقص من قدر القائل، اقض على المرض لا على المريض، عن يونس الصدفي - رحمه الله - قال: "ما رأيتُ أعقلَ من الشافعيِّ، ناظرتُه يومًا في مسألةٍ، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة!" [سير أعلام النبلاء]

اكره الخطأ ولا تكره المُخطئ، ابغض المعصية ولا تبغض العاصي، انتقد القول ولا تنتقص من قدر القائل، اقض على المرض لا على المريض

ثالثًا/ لاءات يجب مراعاتها أثناء الحوار

- لا تحاول الانتصار في كل الاختلافات، فكسب القلوب أولى من كسب المواقف.

- لا تهدم الجسور التي بنيتها بينك وبين الناس فكسر النفوس أقسى ألمًا من كسر الضلوع.

- لا تُستَثَر، ولا تنجر لحوارات جانبية تخرج الحوار عن مضمونه، ولا تجعل كلامك ردة فعل لما تسمعه، ولا تجعل الطرف الآخر ينتزع منك ما لا تقصد، ولكن صوِّب نحو الهدف الأساسي للحوار.

- لا تفضح ولا تشهِّر ولا تعاير ولا تعيب فلولا ستر الله علينا لاندقت أعناقنا وانقدَّت.

- لا تفرِّط فيمن يُخالفك الرأي فالجدار المستقيم لا يُبنى من قوالب سليمة، واجعل الشرع هو الفيصل والحكم بينك وبين كل مُخالف.

- لا تجعل من يجادلك يلحظ أو يشعر أنك تتحداه فإنك بذلك تعين شيطانه عليه، ولن تكسب تسليمه لرأيك حتى ولو كان رأيك صحيحًا.

- لا تتخذ كل من لا يتفق معك في الرأي ندًا لك فهذا نهج الحمقى.

- لا تحاور في أمور لا طائل من ورائها ولا ينبني عليها عمل ولا مسألة لم يحن وقتها بعد.

- لا تبدأ الحوار في الوقت الذي تعتريك فيه المُنغصات التي تسبب لك عدم الاستقرار النفسي.

- لا تحاور فيما هو معلوم من الدين بالضرورة أو فيما حسمه الشرع، أو فيما أجمع عليه جمهور العلماء.

- لا تجعل أدلتك في الحوار تقوم على الآراء الشاذة التي تؤدي إلى الوقيعة بين المسلمين، ولا الآراء التي لا تستوعبها عقول العامة، "من أهدى الحكمة لمن لا يفهمها كمن أهدى فتاة حسناء لشيخ قعيد أشل"

- لا ﺗﻴﺄﺱ ﺇﺫﺍ رجعت خطوة إلى الوراء، فلا تنس أن السهم يحتاج أن ترجعه إلى الوراء لينطلق بقوة إلى الأمام، ولولا أن نبي الله موسى وفتاه {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}، ما وصلا إلى بُغيتهما.

- لا تغلق باب النقاش ولا ترفضه؛ فليس بيننا من هو أكرم ولا أعز ولا أشرف من النبي ﷺ الذي جاءه عتبة بن ربيعة يجادله في أمر نبوته ويُغريه بالمال والجاه والسلطان ليثنيه عن الإسلام فما كان من النبي ﷺ إلا أن أقبل عليه بوجهه وأعاره السَّمع حتى فرغ من كلامه فقال له النبي ﷺ: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟" قال: نعم، قال: "فاسمع منِّي" قال: أفعل.

قاعدة: إن ‏أدب الحوار ليس معناه قول الكلام المناسب في الوقت المناسب فحسب، ولكنه أيضًا السكوت عن الكلام غير المناسب في الوقت المناسب.

من أهم أسس الحوار البنَّاء هو تداول الكلام بطريقة متكافئة، فلا يستأثر طرف بعرض الحُجج والرؤى والدلائل بينما يُحرم الطرف الآخر بشيء من ذلك

رابعًا/ ضروريات يجب مراعاتها أثناء الحوار

- أحسن استهلال كلامك بنقاط الاتفاق وبذكر مآثر محاورك تأسر قلبه ومشاعره.

- تعامل بالظاهر واترك لله السرائر، فلو أن الله تعالى عاملنا بسرائرنا كما نعامل عباده لهلكنا جميعًا.

- اعلم أن من أهم أسس الحوار البنَّاء هو تداول الكلام بطريقة متكافئة، فلا يستأثر طرف بعرض الحُجج والرؤى والدلائل بينما يُحرم الطرف الآخر بشيء من ذلك.

- اعلم أن الحوار ليس معناه إجبار طرف على اعتناق رأي الآخر، فقد يثمر الحوار على رأي ثالث يتفق عليه الجميع ويلتزمون به.

- اعلم أن الله تعالى قد خلقنا مختلفين في الأفهام، متباينين في العقول، فلا تحاول أن تجعل الناس على مستوى واحد من الفهم ولكن اقبل بالحد الأدنى ولا تتنازل عنه.

- العقلاء يحرصون على أن يكون اختلافهم في حدود (العقل)، كما يحرصون على ألا تصل آثار خلافهم لحدود (القلب).

- ثق أننا عندما نحسن الاختلاف سنحسن الاتحاد على غاية سامية، وكيف نسد مداخل الشيطان فيما بيننا، وكيف نرتقي ونعلي من شأن ديننا وأمتنا.

الحوار ليس معناه إجبار طرف على اعتناق رأي الآخر، فقد يثمر الحوار على رأي ثالث يتفق عليه الجميع ويلتزمون به

- اختيار الألفاظ والأدلة والشواهد الواضحة التي لا غموض فيها وحُسن صياغتها وعرضها، والبعد عن الإسهاب الذي يُنسي بعضه بعضًا، والاطمئنان على أن الطرف الآخر فهم الألفاظ والأدلة والشواهد فهمًا لا لبس فيه ولا غموض، كلها أمور تضمن نجاح الحوار.

- أعط الذي يحاورك الفرصةَ للتفكير، كذلك أعطه الفرصة للتراجع عن الرأي الخطأ.

- من الأهمية بمكان مراعاة أحوال المخاطَبين: فمحاورة المشركين تختلف عن محاورة أهل الكتاب، ومحاورة المنافقين تختلف عن محاورة العصاة، فالمنافقين لا ينقصهم معرفة الحق ولا يخفى عليهم دلائل الهدى لذلك لا بد أن يتسم الحوار معهم بالشدة والغلظة عليهم، أما العصاة فينقصهم ما يقربهم إلى الله ويرغبهم في ثوابه ويرهبهم من عقابه فوجب لهم اللين وخفض الجناح.

قاعدة: من أهم آداب الحوار "العلم قبله، والرحمة معه، والصبر بعده"؛ لكي يكون الحوار على أرض ثابتة، ولا تتحول حواراتنا إلى "مَكْلَمَة" واختلافاتنا إلى "مُلاكَمَة"، وكي لا يدور الجميع في حلقة مُفرغة.

خامسًا/ همسة في أذن الدعاة خاصة

إذا كان الرجوع للحق فضيلة في حق عموم المسلمين فإنه في حق الدعاة إلى الله تعالى من أفضل الفضائل وإلا لن نرى إلا أثرة مُهلِكة، وتشرذمًا مَقيتًا، وتخوينا بغيضًا، وتعصبا مذمومًا، وتثويرا للقضايا فاضحا، وجيوبا تنخر في جسد صف الدعوة فتهلكه، وتكتلات لا شبيه لها إلا مسجد الضرار، وكل ذلك إنما هو ناتج عن تنحية الأوامر الشرعية الصريحة والقاطعة جانبًا بحجج واهية هي في ذاتها عبارة عن مصوغات لمصالح ذاتية لفرد أو مجموعة من الأفراد.

تجنب معالجة أمور الخلاف على الملأ، لتفويت الفرصة على الشامتين والمتربصين، وحفاظًا على ضعاف العقول من أن يلعب الشيطان بعقولهم فتزداد هُوَّة الخلاف وتتأجج ناره وتتضخم الأمور إلى ما لا تحمد عُقباه

قال محمد بن منازل رحمه الله: "المؤمن يطلب معاذير إخوانه والمنافق يطلب عثرات إخوانه"، وقال حمدون القصار رحمه الله: "إذا زل أخ من إخوانكم فاطلبوا له سبعين عُذرًا فإن لم تقبل قلوبكم فاعلموا أن المَعيب أنفسكم"، وقال ابن الأعرابي رحمه الله: "تناسوا مساوئ الإخوان يدم لكم ودهم، ولا تثقن بمودة من لا يحبك إلا معصومًا"، وقال سفيان الثوري رحمه الله: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختُلِف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه"
إن كل ما سبق يُحتم على العاملين في حقل الدعوة مراعاة ما يلي:

• مراعاة أدب الخلاف وفقهه وقواعده في إطار الشرع.

• مراعاة ما يُحاك للأمة من أعدائها، وبيان أن هدف أعداء الأمة هو نشر الخلافات وإثارة الفتن وإحداث الوقيعة بين العاملين في حقل الدعوة فتخور قواهم وتضيع جهودهم وتسقط هيبتهم، فيفشلوا وتذهب ريحهم.

• عدم معالجة أمور الخلاف على الملأ، لتفويت الفرصة على الشامتين والمتربصين، وحفاظًا على ضعاف العقول من أن يلعب الشيطان بعقولهم فتزداد هُوَّة الخلاف وتتأجج ناره وتتضخم الأمور إلى ما لا تحمد عُقباه.

• الحرص على بناء جدار الثقة، وتمتين جسور المحبة، بين الدعاة بصفة عامة والرموز منهم بصفة خاصة.

• أن يتخذ الجميع شعارهم قول الله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]

أخيرًا أقول:

إن النائبة التي أصابت أمتنا على جميع المستويات ونالت من قوتها ومكانتها هي أننا لا نراعي للاختلاف آدابه وبالتالي انتُهكت الأسرار، ومُزِّقت الأستار، واهتزت الثقة، وشاع فساد ذات البين، حتى تاهت الأمة في مهاوي الخلاف وسراديبه، وكل ذلك يصب في مصلحة الشامتين والمتربصين بالرغم من أننا أكثر أمة تمتلك مُقومات الوحدة والعزة والسيادة والريادة.

وأقول:

إن من علامات صدق المسلم أنه لا يأبى الرجوع للحق والفضيلة ولا يأبى أن يتنازل عن رأيه حُبًّا وطواعية إذا ثبت أن رأي غيره هو الأصوب والأرجح وبه تتحقق مصلحة الدعوة التي هي مصلحة الشرع.

من هنا نقول إننا في حاجة ماسة ومُلحة اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى إلى مراجعة حساباتنا ومواقفنا ومنطلقاتنا الفكريّة والعقائديّة من منظور شرعي لا هوى فيه، ولا نلوي عنق الحقائق لتحقيق مكاسب مؤقتة وزائلة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …