رسالتي اليوم موجهة للآباء والأمهات، ولأهل التربية والتعليم ومؤسساتهما المدنية والرسمية، ولأهل الدعوة والإصلاح، ولكل حريص على غرس القيم الراقية ونشر الفضيلة، وتخلية المجتمع من العقوق والرذيلة.
إن مصنفات ومؤلفات أهل العلم وخاصة علماء الحديث وعلماء التربية والتزكية قديما وحديثا، لا تكاد تخلو من مبحث "البر والصلة" ونحوه، والذي على رأس أولوياته "بر الوالدين، وصلة الأرحام"، باعتبارهما يرتقيان بأسمى العلاقات الإنسانية المرتبطة بأصولنا وأنسابنا وأرحامنا، ويرتقيان حتى بأمهاتنا وأقاربنا من الرضاع، بل وبعلاقاتنا الناتجة عن المصاهرة، فالحماة كالأم بالنسبة للزوج، والحما كالأب بالنسبة للزوجة.
إن مما يميز هذا الرقي أن (بِرَّ الوالدين - وإن علوا -، ومصاحبتهما بالمعروف حال كفرهما، بل وحال طلبهما من ابنهما الشرك والكفر طلبا جازما حازما لحوحا)، و(إيتاءَ ذوي القربى حقوقهم وزيادة، وصلةَ الأرحام حتى الهاجرة والقاطعة)، يرتقي لدرجة الواجب الشرعي في كل حال، والعقوق والقطيعة فيه محرمان لدرجة أن يكونا من الكبائر، وأحيانا من أكبر الكبائر "الموبقات"، فالمطلوب في هذه العلاقات ليس المكافأة والمعاملة بالمثل "فليس الواصل بالمكافئ"، بل رد الإساءة بالإحسان "إنما الواصل الذي إذا قَطعت رحمه وصلها"، والمُضِيّ في صلة الأقارب القاطعين "صِلْهُم فكأنما تُسِفُّهُم المَلَّ"، والتصدق على فقيرهم وإن كان كاشحا.
إن متوسط تكرار الآية الواحدة هو 40 مرة نظرا من المصحف واستحضارا من الذاكرة حتى يتمكن المسلم من حفظها حفظا متقنا دائما، وكلما حفظ شيئا جديدا احتاج لضمه إلى سابقه، ثم احتاج إلى المراجعة والتمكين على مدار السنين، هذا فضلا عن ختمات التلاوة وتلاوات الصلوات والتسميع للآخرين وتعليمهم والتقدم للاختبارات والاستماع للتلاوات المبثوثة، وبناء عليه فإن أي حافظ للقرآن يكون قد مر بالآية الواحدة عشرات المرات وربما المئات والآلاف، وبلا شك فإن هذا التكرار سيغرس فيه قيما كثيرة، ومن أهمها بعد التوحيد رعاية حقوق الأبوين والأقارب والأرحام والجيران والأصحاب والخلان، ومن هنا فإن هذا يحث الأهالي الغوالي ويشجعهم على حفظ ذراريهم للقرآن الكريم وارتياد مراكزه ودور تعليمه والإنفاق لدعم ذلك البِرَّ المزدوج.
إن سياحة مباركة بين آيات الكتاب تعطينا دلالات واضحات على غرس القرآن لقيمة البر، فعشرات المواضع، أوجبت الإحسان للوالدين معا أو للأم وحدها، أو للأقارب والأرحام، وجعلت الإحسان للوالدين يلي وجوب التوحيد بأنواعه ووجوب اجتناب الكفر والشرك.
وعلى سبيل المثال لا الحصر سأشير في هذه الافتتاحية لاسم السور وأرقام آياتها الأشهر الدالة على ذلك اختصارا وتجنبا للإطالة، ومن ذلك:
1. في الجانب التاريخي للرسل والأنبياء ومن باب الحث على الاقتداء: وفي سور "نوح 28 والتوبة 114 وإبراهيم 41 ومريم 14 و 32 و 41 – 47 والشعراء 86 والصافات 102 ويوسف 80 و 99 و 100 والقصص 12 – 13 و 23 والنمل 19 ولقمان 13 – 15 والمائدة 110 والكهف 80 – 82 والبلد 3" سنجد دعاء نوح عليه السلام بالمغفرة له ولوالديه، واستغفار إبراهيم لأبيه ولوالديه وللمؤمنين والتزامه بالوعد وذلك قبل نهيه عنه، ونجد أدبه مع أبيه ونصحه له وتلطفه معه وتكرار مخاطبته ب "يا أبت"، وحتى بعد تهديد أبيه له فقد رد بالسلام ووعده بالاستغفار له، وسنجد أعظم بر من إسماعيل عليه السلام بأبيه إبراهيم عليهما السلام لدرجة الاستسلام للذبح، وسنجد موقف أحد أبناء يعقوب عليه السلام الذي قال: لن أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أبي، ثم توقير يوسف لأبويه ورفعهما على العرش، وفي قصة طفولة موسى عليه السلام ورضاعه ذكر الله أهم وظيفة للأبوين وهي النصح والتربية، بالإضافة للحرص على الأم وإبعادها عن الحزن، وفي قصة الفتاتين ومساعدة سيدنا موسى لهما لما رآهما وعلم أن سبب خروجهما مراعاتهما لكون أبيهما شيخا كبير السن، وفي دعاء سليمان عليه السلام وشكره لله عن نفسه ونيابة عن والديه، ومواعظ ووصايا لقمان لابنه بهما معا وبالأم التي حملت وتحملت وأمره بشكرهما بعد الله ومصاحبتهما بالمعروف، وسنجد تذكير عيسى عليه السلام بنعمة الله عليه وعلى أمه، والثناء على بر عيسى بها وبر يحيى بوالديه عليهم السلام، وسنجد في سورة الكهف قصة تعويض الله للأبوين المؤمنين بولد خير من الغلام الذي قتل، وقصة رحمة الله بالغلمين اليتيمين إكراما لأبيهما الصالح، إلى أن نجد القسم الإلهي بالوالد وما ولد، بعد القسم بالبلد الحرام وبالنبي الذي حل به عليه الصلاة والسلام.
2. في الجانب التعاملي القولي والعملي: سور " الزمر 6 والنجم 32 والبقرة 83، والنساء 23 و 36، والأنعام 151، والإسراء 23 – 24، والعنكبوت 8، والأحزاب 6 ولقمان 15 والأحقاف 15 - 18" حيث التذكير بأبوينا آدم وحواء، وبخلقنا في بطون أمهاتنا ونحن أجنة، والاهتمام بهما في كبرهما، وتحريم التأفف والضجر منهما ومعهما، ومنع قول "أف" وذمه وتحريم العقوق وجعلهما سببا في الخسران، والأمر بخفض الجناح والدعاء لهما والتلطف معهما بالقول الكريم، ومراعاة وتقدير حمل الأم وتعبها فيه وفي الإرضاع والتربية، وجعل تقدير ذلك سببا في صلاح الذرية للابن البار، ومدعاة للشكر والقبول، وحتى لو كانا غير مسلمين، وحتى لو سعيا لإضلال ورِدَّة ابنهما، وتبجيل الأبوين من خلال تحريم الزواج منهما حتى لو كانا أبوين من الرضاع أو حموين، واعتبار زوجات النبي أمهات للمؤمنين يحرم زواجهن من بعده رضوان الله عليهن.
3. في الجانب المالي وجانب التراحم بين الأقارب: في سور البقرة 27 و 177 و 180 و 215 والنساء 1 و 8 – 9 والأنفال 41 و 75 والرعد 19 – 25 والنحل 90 والإسراء 26 والنور 22 والروم 38 والأحزاب 6 والشورى 23 ومحمد 22 – 24 والحشر 7: جاء الأمر بالإنفاق عليهما وعلى الأقارب، والوصية للطرفين واعتباره برا حقيقيا واجبا على الأتقياء ودليلا على صدق الإيمان والتقوى وتقديمه في السياق على كثير من الشعائر، ووجاء الحكم بإيجاب منح حاضري القسمة من ميراث قريبهما وحسن القول معهم، واعتبار تقوى وصلاح الآباء خير ذخر للذرية، والحث على التراحم والموالاة بين أولي الأرحام، والتحذير من قطع الأرحام والجمع بينه وبين الإفساد في الأرض وترتيب اللعنة والعمى والصمم عليه.
إن تلك آيات ودلالات واضحات على اعتبار البر دينا وشرعا واجب التنفيذ، وهو ما لا يمكن أن نجده في كتاب غير القرآن ولا في دين غير الإسلام، فهل بعد هذا يمكن أن يستهين أحد بتعلم القرآن وتعليمه للجميع خاصة للذرية، وتلك جولة ريعة في كونه برا في الدنيا، أما عن كونه برا في الآخرة فهو ما بينته في مقالي السابق.