فلاسفة الإسلام غير الفلاسفة المسلمين

الرئيسية » بصائر الفكر » فلاسفة الإسلام غير الفلاسفة المسلمين
فلاسفة الإسلام غير الفلاسفة المسلمين

معنى مهم جدًا، ربما لا ينتبه إليه الكثيرون في حديثهم عن الفلسفة الإسلامية، وعن أقطابها الكبار الأوائل، فغالبا ما يتحدث الباحثون ويكتبون عن الفلسفة الإسلامية، معتبرين الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، هم أقطابها وآباؤها المؤسسون.

والحقيقة غير ذلك تمامًا؛ فالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد هم أقطاب الفلسفة اليونانية في بلاد الإسلام، وليسوا أقطاب الفلسفة الإسلامية، فهؤلاء اشتغلوا بدراسة الفلسفة اليونانية، وبتحليل أفكار أقطابها الكبار اليونانيين، أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو، ولا يخرج عملهم عن ترجمة فلسفة هؤلاء اليونانيين وشرحها ومناقشتها والإضافة عليها من جنسها، وبطريقتها.

وطريقة الفلسفة اليونانية كما هو معروف، هي طريقة النظر العقلي الحر، غير المنطلق من أي منطلقات مُسبَقة، وغير المعتمد على أي نقول مُلحقة، إلا أن تكون نقولا عقلية محضة؛ فابن رشد مثلًا، يسمونه بـ (الشارح الأكبر)، وهم يعنون في ذلك أنه كان أكبر شارح لفلسفة أرسطو، وأكبر مبين لها، وهو كذلك بالفعل، وكذلك كان الكندي والفارابي وابن سينا، وذلك غير الفلسفة الإسلامية تمامًا.

الفلسفة الإسلامية تعني من اسمها والنسبة فيها، أنها فلسفة منطلقة من منطلقات الإسلام الكبرى (القرآن والسنة) لتبحر بهما من أجل الوصول للحقائق والمعاني

فالفلسفة الإسلامية تعني من اسمها والنسبة فيها، أنها فلسفة منطلقة من منطلقات الإسلام الكبرى (القرآن والسنة) لتبحر بهما من أجل الوصول للحقائق والمعاني، وكل فيلسوف، يبحر بعقله في بحار التفكير والتفلسف من أجل الوصول للحقائق والمعاني من غير أن ينطلق من أي منطلقات مسبقة، ومن غير أن يهتدي بأي هدى غير هدى عقله المجرد، فهو فليلسوف حر، وإن شئنا نقول: هو فيلسوف يشتغل بالفلسفة اليونانية، أو يستخدم طريقتها، ولا يعني مجرد كونه مسلما - إن كان - أنه يشتغل بالفلسفة الإسلامية.

وأي فيسلوف، يبحر بعقله في بحار الفكر والتفلسف، من أجل الوصول للحقائق والمعاني، منطلقا من القرآن والسنة، ومهتديا بهديهما في ذلك، فهو فيلسوف إسلامي، يشتغل بالفلسفة الإسلامية، وإذا كنا قد استخدمنا تعبير (يبحر في بحار الفكر والفلسفة)، فإن المعنى شبيه بالإبحار حقًّا، فالأمر يشبه بحرا كبيرا، يبحر فيه بحّاران، بحار يقرر أن يعتمد على رأيه ونظره من أجل الوصول لبر الأمان، غير معتبر بأية خرائط أو بوصلات أو منارات، وفليسوف آخر يقرر الاعتماد على رأيه ونظره مستعينا مع ذلك بالخرائط والبوصلات والمنارات، وطبيعي أن لا يصل الأول إلى برٍّ أبدا، ويظل يصارع الأمواج المتلاطمة، ليظل في تيه البحر، ما دام على حاله تلك، وهذا هو حال فلاسفة اليونان، وحال تلامذتهم من فلاسفة المسلمين، فقد تاهوا في بحار الفكر، وظلوا في تيهها، بل وفي عمايتها، من حيث يظنون أنهم يستبصرون.

أي فيسلوف، يبحر بعقله في بحار الفكر والتفلسف، من أجل الوصول للحقائق والمعاني، منطلقا من القرآن والسنة، ومهتديا بهديهما في ذلك، فهو فيلسوف إسلامي، يشتغل بالفلسفة الإسلامية

قضية الفلسفة الكبرى هي قضية معرفة الله؛ السبب الأول، والعلة الأولى، ومن بعد ذلك تأتي معرفة كل شيء آخر، وفي قضية معرفة الله، ضل الفلاسفة من حيث أرادوا أن يهتدوا، إذ أيقنوا بجود الله، كقوة غيبية من وراء هذا الخلق، غير أنهم ضلوا، في تعيين ذات الله، ووصفها، وإثبات ما يجب لها، ونفي ما يستحيل عليها، ولما ضلوا في هذه القضية الرئيسة، ضلوا بالتبعية بعدها في أغلب ما وراءها من قضايا كلية أو جزئية.

والفلاسفة المسلمون - الذين اشتغلوا بالفلسفة اليونانية، وحاولوا التوفيق بينها وبين الإسلام، بمصدريه القرآن والسنة - ضلوا كذلك في كثير من القضايا؛ لأنهم جعلوا الفلسفة اليونانية هي الأصل، بل وهي كل شيء، فلا نص عندهم مع العقل.

وقد كَفّر ابن تيمية فلاسفة المسلمين المشتغلين بالفلسفة اليونانية هؤلاء بثلاث قضايا رئيسة، وهي: إنكارهم علم الله بالجزئيات، وقولهم بقدم العالم، وإنكارهم أن يكون البعث يوم القيامة بالأجساد، ففي رأيهم يكون البعث بالأرواح فقط.

والشاهد هنا، أنهم لما اتبعوا طريقة الفلسفة اليونانية، بالنظر العقلي الحر، مع عدم الاعتبار بالوحي، ضلوا ضلالا شديدا، في كثير من القضايا الكلية، والجزئية كذلك.

أما فلاسفة الإسلام، فهم أولئك الذين ضبطوا عقولهم بالوحي، ووجهوا آراءهم بالنصوص، فاهتدوا ورشدوا وأرشدوا، ولو كان للعقل قدرة على الوصول للحقائق التامة، بكامل أبعادها وأوصافها، لما كانت هناك حاجة للوحي، ولما أرسل الله الأنبياء.

علم الله أن العقل البشري قاصر عن الوصول إليه تمام الوصول، فهداه بالوحي وبنصوصه الاعتقادية، وعلم كذلك أنه قاصر عن صياغة الدساتير والقوانين التي تضبط الحياة ضبطا تاما، فهداه بالوحي وبنصوصه التشريعية

ولكن - ولأن الله هو خالق العقل، وهو الذي يعلم آفاقه وحدوده - بعث الأنبياء بالوحي من عنده، ليضبط تفكير العقل وبحثه، في القضايا الكبرى المتعلقة بمعرفة الله وتوصيفه، نزولا بعد ذلك إلى أصغر القضايا المتعلقة بسلوك الإنسان وطريقة عيشه وحياته.

علم الله أن العقل البشري قاصر عن الوصول إليه تمام الوصول، فهداه بالوحي وبنصوصه الاعتقادية، وعلم كذلك أنه قاصر عن صياغة الدساتير والقوانين التي تضبط الحياة ضبطا تاما، فهداه بالوحي وبنصوصه التشريعية.

فلاسفة الإسلام، هم الذين درسوا القرآن والسنة، وأعملوا عقولهم فيهما، ليهتدوا بهداهما، في كل صغيرة وكبيرة، فإن عرض لهم عارض، ليس له في كتاب الله ولا في سنة نبيه قول فصل قاطع، أعملوا عقولهم في فهمه والقطع به، في ضوء القواعد والأصول الفكرية، التي قعدوها وأصلوها من القرآن والسنة.

فلاسفة الإسلام الحقيقيون هم ابن تيمية وأبو حامد الغزالي وأبو الحسن الأشعري، فهؤلاء هم الذين استقوا فلسفتهم وأفكارهم من الإسلام: قرآنا وسنة، وهؤلاء هم الذين ردوا على أقطاب فلاسفة اليونان أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو، وأقطاب الفلسفة اليونانية في بلاد الإسلام أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد.

وعندما نذكر هنا فلاسفة الإسلام، ونذكر تلك الأسماء بالخصوص (ابن تيمية وأبو حامد الغزالي وأبو الحسن الأشعري) دون غيرهم من علماء الإسلام الآخرين، فإننا نتعمد ذلك؛ لأن هؤلاء بالخصوص ومن على شاكلتهم، هم علماء الإسلام الذين اشتغلوا بدراسة الشريعة الإسلامية: قرآنا وسنة، وبالرد في الآن ذاته على فلاسفة الفلسفة اليونانية، منطلقين كما ذكرنا آنفا في ردودهم من القرآن والسنة، ومستعينين بهما، ومدافعين عنهما.

أما غيرهم، من علماء الإسلام، الذين اشتغلوا بالفقه والتفسير والحديث، ولم يشغلوا أنفسهم بمناقشة الفلسفة، ولا بالرد على الفلاسفة، فهم علماء لا فلاسفة، وذلك إذا جارينا في ذلك الذين يشتغلون بالفلسفة في تعريفاتهم للفلسفة ومناقشاتهم لقضاياها ومسائلها.

أما أمثال ابن تيمية والغزالي والأشعري، فهم لم يكونوا مجرد علماء شريعة، بل كانوا فلاسفة كذلك، يُعملون رأيهم وعقولهم، في الرد على الفلاسفة، ومناقشة قضايا الفلسفة، بخلفيتهم الإسلامية، ومنطلقاتهم القرآنية والحديثية.

فيلسوف الإسلام، هو من يمزج بين الرأي العقلي والنص النقلي، في مزج بديع، يقطع به في كل قضية، فكأن مزجه حينها مزج سماوي، ألهمه الله إياه، لمّا رآه يريد الهداية، من حيث أرسلها الله إليه، في كتابه وسنة نبيه

رد ابن تيمية على الفلاسفة بكتابه (درء تعارض العقل والنقل)، وهو كتاب كبير، وكذلك رد على المنطقيين بكتابه (الرد على المناطقة)، ورد أبو حامد الغزالي على الفلاسفة بكتب كثيرة، أشهرها (تهافت الفلاسفة)، الذي رد عليه ابن رشد بكتابه الشهير (تهافت التهافت)، وفي مباراة الغزالي وابن رشد هذه يتأكد لنا ما نرمي إليه من مقالتنا، فابن رشد فيلسوف مسلم، لكنه ليس من فلاسفة الإسلام على الحقيقة، وهو في كتابه تهافت التهافت ينتصر للفلسفة اليونانية، ولطريقتها في البحث والاستدلال، وهي الطريقة البعيدة في مجملها عن هدي الإسلام، والتي يؤكد الغزالي على تهافتها في كتابه تهافت الفلاسفة، ليظهر الغزالي كفيلسوف من فلاسفة الإسلام، يفند الفلسفة اليونانية، وينتصر للتفكير العقلي المستهدي بالنص، في مقابل التفكير العقلي المطلق الذي انتصر له ابن رشد.

بعض الباحثين يعدون علماء الكلام هم فلاسفة الإسلام الحقيقيين، وهي رؤية علمية مصيبة؛ لأن علماء الكلام، هم فلاسفة اشتغلوا بالفلسفة للدفاع عن عقائد الإسلام، ولأن الرؤية العلمية الأكثر صوابًا، هي أن علماء الإسلام، الذين اشتغلوا بالتفسير والفقه والحديث، أمثال ابن تيمية والغزالي والأشعري، ثم أعملوا عقولهم للرد على أفكار الفلسفة اليونانية، وعلى عقائد وأفكار الأديان الأخرى: المحرفة والمزيفة، هم الأكثر أحقية بوصف فلاسفة الإسلام من غيرهم؛ لأن أمثال هؤلاء، هم من تخرج أفكارهم أكثر إسلامية، لأنهم أكثر التصاقا بكتاب الله وبحديث رسول الله، أما علماء الكلام، فقد انشغلوا أكثر بالرأي العقلي، فأصبحوا أكثر ميلا للفلسفة وطريقتها.

فيلسوف الإسلام، هو من يمزج بين الرأي العقلي والنص النقلي، في مزج بديع، يقطع به في كل قضية، فكأن مزجه حينها مزج سماوي، ألهمه الله إياه، لمّا رآه يريد الهداية، من حيث أرسلها الله إليه، في كتابه وسنة نبيه.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …