يُعرّف د. محمد عمارة التأصيل الإسلامي للعلوم على أنه: "إيجاد علاقة بينها وبين السنن الإلهية التي جاء بها الوحي في الكون والإنسان والاجتماع، وكذلك توظيف هذه العلوم والمعارف - عن طريق أسلمة فلسفتها - لتحقيق المقاصد والغايات الشرعية التي حددها الوحي" [إسلامية المعرفة ماذا تعني؟]، فأنّى تتأتّى إسلامية المعرفة بغير معرفة الإسلام معرفة حقّة أوّلًا؟
وما مِن أمر مِن الأمور العلمية أو العملية التي يراد تأصيلها وتوصيلها في حياة الناس إلا ويمكن التوصّل لها من طريق علوم القرآن والسنّة والعربية، وقد قال ربنا تبارك وتعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، فأهل الإسلام أحقّ الناس بالعناية بتأصيل أصول العلوم المختلفة للناس جميعًا لا للمسلمين وحدهم؛ إذ هذا الدين جاء هدى للناس جميعًا، ونزل شرع الله تعالى نورًا للبشر كلهم، وبُعِث المصطفى الخاتم - عليه السلام - رحمة للعالمين أجمع، ولا ريب أنّ تحقيق مثل هذا الاستقلال في الطرح يحتاج إلى قناعة صادقة بصدقه، ثم تشمير ساعد الجدّ في التفكير والمعالجة، "أمّا الترجمة والنقل فلا تحتاج أكثر من قصّ ولصق، فإذا النكهة نكهتهم والنغمة نغمتهم والطعم طعمهم والمذاق مذاقهم! فأنّى لأمّة هذا نهج مُصلحيها ومُفكريها ومثقفيها ومدربيها أن تتفوق على غيرها؟!" [د. محمد عثمان نجاتي: التأصيل الإسلامي لعلم النفس]
ولإعادة توليد علوم الدنيا في مختلف المجالات على أسس وهدي علوم الدين، لا بد من العلم بعلوم الدين أولًا – كما يتكرر التوكيد في الكتاب - والنظر في هَدْي خير القرون من السلف، الذين تحركوا في الحياة حركة طبيعية وعمروا الأرض بالعمران والعمارة، منطلقين من هَدْي الإسلام ومتوافقين معه، فلا علوم الدين حجّرتهم ومنعتهم عن الدنيا، ولا علوم الدنيا ألهتهم وفصمتهم عن الدين، وهذا نوع الانسجام الذي يجب أن يتحقق للفرد أو المجتمع الساعي للتأصيل في مجاله.
ليس المختصّون بعلوم الشريعة هم وحدهم المحتاجون إلى فهم الدين وتطبيقاته أو المَعنيّون به، وليس في الإسلام تفرقة الناس إلى رجال دين ورجال دنيا، بل على كلّ مسلم بحسبه قدر لازم من: معرفة الحق، والعمل به، والدعوة إليه
قواعد التأصيل والتجديد الإسلامي في أي مجال:ذ
تمييز مجال التجديد ومحلّه:
التجديد لا يكون في الدين وإنما بالدين، أي بتوظيف فهم الدين من المؤهلّين في مختلف المجالات، لوضع مناهج ونماذج معرفية متسقة مع أصوله، ومبنية على هَديه في مجالات الفكر والاجتماع والاقتصاد: "إن الدين وبخاصة دين الإسلام، لاكتماله من جهة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، ولحفظ أصوله ومصادره وعدم تأثرها بكَرِّ الأيام والدهور من جهة أخرى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، لا يعطي للعقل أو لتجدد الظروف دورًا في الجانب الاعتقادي منه، فهو في مضامينه وصِيَغه ليس بحاجة لمجامع محلية ولا جهود فردية أو جماعية، اللهمّ إلا في حين العرض وأساليب الإقناع والرد على الشبهات" [د. حسن الشافعي: قول في التجديد]
الرسوخ في فقه الدين:
ليس المختصّون بعلوم الشريعة هم وحدهم المحتاجون إلى فهم الدين وتطبيقاته أو المَعنيّون به، وليس في الإسلام تفرقة الناس إلى رجال دين ورجال دنيا، بل على كلّ مسلم بحسبه قدر لازم من: معرفة الحق، والعمل به، والدعوة إليه.
والعلوم الإسلامية الأصيلة هي البنية التحتية التي تُكَوِّن عقلية المفكر المسلم (سيأتي تفصيلها في السؤال الأخير)، فلا بدّ لأي متعلم من الاتصال المباشر والأصيل بأساليبها ولغتها في متون الأُمّهات في تراثنا، بالكمّ والكيف والتوجيه المناسبين له ولمرحلته العلمية، لا من المعالجات الحداثية التي تشوّش علاقتنا بتراثنا وتنقله بعيون لم ترسخ بتكوين علمي أصيل: كتعليم العقيدة من خلال سؤال و جواب، والقرآن من الخرائط الذهنية، والأحاديث والسيرة والأخبار التاريخية – بدون تدقيق - من المساهمات على وسائل التواصل الاجتماعي، والتزكية من كتب التنمية البشرية أو مقاطع الفيديو التحفيزية... إلى آخر تلك الهيئات المُختَزِلة، وليس الإشكال فيها بذاتها - كونها أدوات مساعدة أو تكميلية - بل الإشكال في اتخاذها هي الأصل الذي نبدأ منه وننتهي عنده.
وتعلُّم علوم الشرع بمنهج لم يُشتق من طبيعته ولا من لسانه العربي مخالف لمقتضيات الصناعة العلمية المنهجية عمومًا، فبغير العناية بتعلم هذه العلوم على وجهها الصحيح ومن موردها الصافي أولًا سيختلّ تكوين المفكر الإسلامي، ويكون فكره مبنيًّا على تخيل ما يظنّ أنه يعلمه من الدين والعربيّة.
لا بدّ من غرسِ أصلٍ أصيل في نفسك تُقَوِّم على أساسه المظاهر الزائفة، وتغربل ما تشهد من تصورات وممارسات تزداد بُعدًا لا قربًا من روح الديانة والعربية بتقدم العصور
تقديم علم السَّلَف على علم الخَلف:
وذلك في مختلف مجالات العلوم لا الشرعية فحسب، والداعي لهذا التقديم أفضليّة الأهليّة لا تنزيه القداسة، فالقرون الأُولى من أهل الإسلام هي خير القرون بإخبار من لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - قالَ الراوي: لا أدْرِي: ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أوْ ثَلاثًا بَعْدَ قَرْنِهِ - ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ، يَنْذِرُونَ ولا يَفُونَ، ويَخُونُونَ ولا يُؤْتَمَنُونَ، ويَشْهَدُونَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ، ويَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ" [البخاري]، وهم أَوْلَى النماذج بالاقتداء؛ لأنهم أقرب الأجيال قاطبة للسان العربيّ الخالص والسَّمْت العربي الأصيل، وأدناهم تمثّلًا حَسَنًا وصحيحًا لروح الديانة حين تَقَر في الأفئدة وتَسُود في التطبيق، بعد أن تستوعبها الأفهام وتُشربهَا العقول، وبهذا فهم نماذج للاقتداء بامتياز.
واستحياء تلك التصورات السَّوِيَّة والتطبيقات المَهْدية في وَعْيِنا يخفّف من حدة انبهارنا بما لدى النماذج البشرية غير المؤمنة بالله تعالى ولا المنضطبة بشَرعِه؛ ويجعلنا نُقبل عليها – حين نقبل – إقبال المُتثقِّف العامّ من عَلٍ لا المُتلقِّف المُستَهام من سَفَل! فتلك النماذج الأجنبية مهما حازت ما حازت فهي مبتورة عن نور الله تعالى، ومهما أنجزت ما أنجزت فهي لا ترجوه عند الله تعالى، لذلك لا بدّ من غرسِ أصلٍ أصيل في نفسك تُقَوِّم على أساسه المظاهر الزائفة، وتغربل ما تشهد من تصورات وممارسات تزداد بُعدًا لا قربًا من روح الديانة والعربية بتقدم العصور (من المسلمين قبل غيرهم)، أما الاكتفاء بالتسقّط العام للدروس التحفيزية من قصص الناجحين بالجملة بنهج التنمية البشرية، فلا يثمر غير محطّات معرفية وشذرات معلوماتية لا رابط بينها.
إن السلف في عصور الإسلام الأولى أقرب الناس قاطبة لروح العربية وحقيقة الديانة وتلقي فتوح الله تعالى في فهم الأنفس والآفاق، فمن استعلى على إكرامهم حقَّ الإكرام والأخذ الجادّ عنهم، كان حقيقًا باستعلاء هُوِيّات الغير عليه وصَغَارِه في نفسه، وإن الانتساب لذلك الإرث العظيم والقدرة على النهل من تلك الموارد الزاخرة شرف ونعمة، قلّ من يَقْدُرُها حقّ قَدْرها، وأقلّ من يؤدي شكرها بحسن استثمارها في نفسه أولًا ثم من يليه.
لا بدّ أن يُلِمّ كل مسلم بمسألة التأصيل الإسلامي للعلوم، ويجتهد في المساهمة في ذلك في مجاله ما أمكنه
المعاصرة الواعية:
وذلك بفقه مشكلات واقع العصر القائم ومكامن الخلل المطلوب علاجها، والاطلاع الواعي على نتاج الأجانب العلمي والتقني – إذا وُجِد – في مجال الاختصاص المطلوب تجديده أو التأصيل فيه، مع ملاحظة أنّ دور هذه القاعدة تحقيق "التكامل" مع ما سبق من قواعد، وهذا يتطلب مراعاة درجتها في الترتيب كما وردت تالية لما قبلها، لا سابقة له ولا مهيمنة عليه.
لا بدّ أن يُلِمّ كل مسلم بمسألة التأصيل الإسلامي للعلوم، ويجتهد في المساهمة في ذلك في مجاله ما أمكنه، ولا سبيل لذلك بغير أن يُوجَد المسلم العالم بالإسلام أوّلًا، والمبتغي وجه الله تعالى بعلمه وعمله، فالله تعالى هو الهادي والموفق إلى سواء السبيل.